كتاب ( زوال إسرائيل حتمية قرآنية )

نبذة عن تاريخ حياة المؤلف

ولد في فلسطين المحتلة في مدينة الخليل عام 1925م حيث نشأ وترعرع من أب لم يمنعه عمله في التجارة من ممارسة النضال السياسي والجهاد الوطني ، مما جعله أن يكون في عداد المقربين من الحاج أمين الحسيني زعيم فلسطين أنذاك ، وهكذا نشأ الشيخ المؤلف في بيت تربطه بالسياسة روابط جهاد تاريخي عريق .

وصل إلى مصر ودرس في جامع الأزهر لمدة إثني عشر عاما ، نال خلالها الشهادة العالية من كلية الشريعة في الأزهر ، وتخصص بعدها خلال عامين حصل فيهما على شهادة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي .

وفي عام 1950م عاد إلى موطنه حيث كانت النكبة الأولى قد حلت ونتج عنها تشرد أهل فلسطين ، وهناك عين مدرسا في وزارة التربية والتعليم .

عام 1952م بدأ تأسيس حزب التحـرير ، فكان المؤلـف من المؤسسين الأوائل ، وفي نهاية سنة 1954م قدم إستقالته من وزارة التربية والتعليم وتفرغ للعمل السياسي والحزبي ، وترشح لعضوية مجلس النواب عن حزب التحرير ثلاث مرات ، وأعتقل في سجن الجفر سنة 1955م لمدة تسعة أشهر .

وفي سنة 1958م إنفصل عن حزب التحرير وعاد إلى سلك الوظيفة فعين مديرا لأوقاف القدس ثم نقل مديرا لدار الأيتام الإسلامية الصناعية وأستمر في هذه الوظيفة حتى تسليم القدس ، وقد كان في الوقت نفسه مدرسا في المسجد الأقصى ، وله درس مشهور بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع حيث كان يحذر فيه من تسليم بقية فلسطين والقدس ، ثم ما لبثت أن وقعت الخيانة حيث أنه كان قد غادر قبل الخيانة بيوم في الرابع من حزيران 1967م إلى بيروت لشراء كمية من الورق لمطبعة دار الأيتام . وبدأت مؤامرة التسليم يوم الخامس من حزيران فتوجه إلى عمان في السادس من نفس الشهر مساء ، فإذ كل شيء قد انتهى ، فقد سلمت القدس وبقية فلسطين . فأقام في حينها في عمان حيث عمل موظفا في وزارة الأوقاف حيث كان يخطب الجمعة في المساجد ويشرح ويبين كيف تمت الخيـانة والتآمر مهاجما الأوضاع السياسية في المنطقة ، وقد كلفه هذا الأمر أن منع من الخطابة عدة مرات ، وبقي موظفا في وزارة الأوقاف حتى سنة 1980م حيث أحيل على التقاعد بعد خطبة عنيفة له كانت بحضور بعض الوزراء والمسؤولين .

تفرغ بعدها للعمل الفكري والسياسي ، فأسس حركة الجهاد الإسلامي ، ولما بدأ الاجتيـاح اليهودي للبنان ، ألقى الكثير من الخطب التي يحث فيها على التطـوع والجهاد ، فكانت النتيجة أن أودع السجن حيث تعرض للضرب ، ثم قدم للمحكمة التي أمرت بالإفراج عنه .

وبعد مجزرتيّ صبرا وشاتيلا التي قامت بها القوات اللبنانية بالتعاون مع جيش العدو الإسرائيلي والتي ذهب ضحيتها المئات من النساء والأطفال والرجال ، ألقى خطبة مشهورة لا تزال تسجل وتوزع حتى الآن هاجم فيها الحكام بأسمائهم في يوم عيد الأضحى المبارك في جمع قدر بخمسين ألفا ، وقدم على إثرها للمحكمة العسكرية مع إبنه الدكتور نادر بتهمة إلقائه خطبا عنيفة ، وقد حكم على الأب بالسجن لمدة ستة أشهر وعلى الإبن لمدة سنة .
 

حيث فرضت عليه الاقامة الجبرية في عمان مكان سكنه  ومنع من  الخروج منها إلا بإذن السلطات المختصة .

قام بتأليف كتاب قبل عام 1967م عنوانه ( أضواء كاشفة ) تنبأ فيه بنكبة عام 1967م بعد أن تعرض بالنقد للأفكار العلمانية السائدة في المنطقة على إخلاف مذاهبها وتياراتها ، وقد ختم هذا الكتاب بنداء للأمة يحذرها من الذي وقع ، وقد أتاح له الله سبحانه وتعـالى الفرصـة أن يلقي هذا النـداء من الإذاعة في المسجد الأقصى يوم الجمعة ، وله كتاب تحت الطبع بعنوان ( الغيب في المعركة والتغيير الكوني ) ، وله كتاب أيضا لم ينشر بعد بعنوان ( الحقيقة كما عشتها ) . وللمؤلف الكثير من الخطب والأحاديث المسجلة ، والتي تداول في كثير من المناطق .


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة

منذ أن أرسل الله تعـالى ، محمدا صلى الله عليه وسلم ، بالهـدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ، بدأت عداوة يهود للنبي وللمسلمين . وكان يهود في المدينة يعرفون أن آخر الأنبياء قد أطل زمانه ، وكانوا يتمنون أن يكون هذا النبي منهم ، فلما جاء من غيرهم (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام :124]: تنكروا له وتآمروا عليه ، وحرضوا المشركين على قتاله ، وحاولوا إغتياله مع أنهم يعرفونه (كما يعرفون أبناءهم) . وهكذا عادى يهود المسلمين وتآمروا على الإسلام واستمر عداؤهم عبر التاريخ لم ينقطع ولم يتوقف . وتحالفوا في هذا القرن مع القوى المعادية للإسلام كافة ، فكون الجميع جبهة واحدة لتمزيق بلاد المسلمين وهدم كيانهم ، وإبعاد الإسلام عن التأثير في الحياة ، وتوجيه المسلمين توجيها خاطئـا . فنجحـوا في ذلك وبلغـوا الـذروة في نجاحهم يوم هدمـوا الدولة الإسلاميـة (العثمانية) فتسللوا إلى الأرض المباركة (الجزء الجنوبي الغربي من ديار الشام) فلسطين ، وأقاموا دولة ليهود ، وقد تم أخذ كل فلسطين وسيناء والجولان .

وهذه الدولة مصيرها إلى الزوال كما سأبينه في هذا الكتاب مستندا إلى القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة في قتال يهود رغم ما جرى ويجري الآن من محاولات لتثبيت إسرائيل دولة والذي تولى كبره الرئيس (المؤمن) بدولة يهود (السادات) الذي دخل التاريخ كأخزى حاكم يمارس الخيانة بلا خجل ولا حياء ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :" الحياء من الإيمان " . وهو في محاولته لتثبيت إسرائيل دولة أعلن أنه (ممنوع تسييس الإسلام) . فهو يريد أن يفرغ الإسلام من مضمونه ، ويلغي تسعة أعشاره ليبقى الإسلام دين المتبطلين وأصحاب البطنة من علماء السوء والذين يباركون كل حاكم فيما يعمل ، فإن كان الحاكم إشتراكيا فالإسلام إشتراكي ، وإن كان رأسماليا ربوبيا فالإسلام رأسمالي لا يحرم الربا . وإن كان محاربا فالإسلام أمر بالجهاد ، وإن كان خائنا مستسلما فسرعان ما يحرفون الكلم عن مواضعه ليبرروا خيانته (إسلاميا) قائلين (وإن جنحوا للسلم فأجنح لها) [الأنفال : 61] ، مع أن هذه الآية لا تكون إلا في حالة الجهاد حينما يطلب الكفار أن يسلموا للمسلمين . أما في حالة الخيـانة التي قام بها السادات وأمثــاله فإن الله يقول للمؤمنين ، وليس للسادات (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) [محمد : 35] . فهم مع الحاكم وليسوا مع الإسلام . إنهم يبحثون عن المناصب والدرجات الدنيا والمتع الرخيصة يلعقونها .

وقضية الدين والسياسة وتسييس الدين قضية لم يعرفها المسلمون إلا في العهد الذي غزاهم فيه الكفر فأحتل بلادهم ، إذ أن معنى السياسة (من ساس الخيل ، أي رعى شؤونها) أنها رعاية شؤون الناس أفـرادا وجمـاعات ودولة فهو يبين أحكام الطهـارة وأحكام الجهاد ، وأحكام الإنتصار ، وأحكام المعاهدات الدولية ، وأحكام القانون الدولي (المعاهد ، الحربي ، المستأمن) وكل ما يحتاجه الفرد والجماعة والدولة من أحكام . فإذا أراد بعض الحكام أن تبقى السياسة لهم ولأعوانهم ممن فقدوا الطهر وتسلقوا المناصب بالكذب والنفاق والخداع وبتوصية من السفارات وأعلنوا إستعدادهم لكل عمل يكلفون به ، ولو كلفهم دينهم ومروءتهم ورجولتهم ، فهم ليسوا من الإسلام في شيء وسياسة الإسلام ليست هذه . وحينما كان الإسلام هو الذي يسوس صعدت أمتنا على قمة الدنيا وقادت الإنسانية . وحينما ساس الأمة دساتير الكفر والإلحاد ، كان السياسيون من نوع الدساتير الكافرة ، فهم يمتازون بالإعراض عن الله والتحلل من كل فضيلة والإستهزاء بالإسلام وأهله ، ولا يرى أحدهم إلا حياته يحياها ، أما الآخرة فلا شأن له بها (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) [الجاثية : 24] .

وظن الغرب ويهود وأعوانهم أن الأمر سيستمر لهم ، ولكن أبشرهم بأنهم يخطئون ، وأن نصر الله للمسلمين آت وأن حزب الله سيغلب ، وأننا على أبواب نصر حتمي سيبدأ حينما تزول دولة يهود وأنظمة التجزئة إلى مزابل التاريخ .

ومنذ سنوات وأنا أبشر الناس بالنصر المرتقــب الذي بشرت به الآيات والأحاديث ، وكانت العلامة عندي هي تحـول الشباب في بلاد المسلمين إلى الإسـلام فجـأة . وكان كثير من الناس يستغرب من تفـاؤلي (المسرف) ولكني كنت ولا أزال واثقا من نصر الله (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) [الروم :60] .


الشيخ أسعد بيوض التميمي


تمهيد ..

بحلول عام 1948م سلمت فلسطين بدون قتال بعد دخول الجيوش العربية إليها والتي زعمت أنها داخلة لتحريرها ، وحيث كان الفلسطينيون أهل البلاد منتصرين على اليهود في كل أنحاء فلسطين .

وقد أوقعت قوات الجهاد المقدس بقيادة المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني وإشراف سماحة الحاج أمين الحسيني ضربات موجعة في الكيان اليهودي ، مما جعل مظاهرات تقوم في مدينة القدس تطالب بالتسليم ، لأن المجاهدين استطاعوا أن يقطعوا امدادات المياه عن القدس ، مما جعل أمريكا وبريطانيا تضطران لطلب إلغاء قرار التقسيم الذي كاد أن يلغى لولا أن أخذ حكـام العرب على عاتقهم في ذلك الحين تنفيذه ، وأدخلوا جيوشهم لتنفيذ هذا الأمر بعد أن منعت اللجنة العربية العسكرية التي ألفتها الجامعة العربية السلاح عن قوات الجهاد المقدس في تفاصيل مخزية مزرية .

وكان المرحوم الشهيد عبد القادر الحسيني قد ذهب إلى دمشق ليحضر تلك الأسلحة فأخذوا يماطلونه ويراوغونه ، فرجع ولم يعطوه إلا نزرا يسيرا من سلاح لا يغني في المعركة ، مما جعله يدخل معركة القسطل يائسا أو شبه يائس ويسقط شهيدا لتقوم بعد استشهاده دولة يهود .

وفي الفترة الواقعة بين 1948 - 1967م حدثت عدة إنقلابات في العالم العربي تمت خلالها حلقة تطويق الفكر الإسلامي وإحلال الفكر القومي والعلماني والاشتراكي مكانه ، فصارت الأمة تلهث وراء الزعيم والقائد ظانة أنه المنقذ المنتظر وصلاح الدين الجديد ، وبعد عدة حوادث تاريخية مهمة مرت على الأمة انكشف خلالها النفاق والكذب وذهب كالسراب ( والذين كفــروا أعمــالهم كسراب بقيعـة يحسبه الظمــآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئـا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) [ النور : 39 ] . وقد وضعت الأمة في ظلمات كثيفة ، ظلمات شارك فيها كل الذين عملوا على تغيير هويتها ، وكانت كما قال الله ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فـوق بعض إذا أخـرج يده لم يكد يراهـا ومن لم يجعـل الله لو نـورا فما له من نـور ) [ النور : 40 ] .

وكان لا بد للظلام أن ينقشع ، ولا بد للحقيقة أن تظهر ، ولا بد للزيف أن يبين ، ولا بد للفكر المزيف اللقيط أن يسقط ، فكانت نكبة 1967م .

وكان رد الفعـل مساويا للفعـل ، فتعرت الأنظمـة والمبـادىء والأفكـار الفاشلة في ساعة أو بعض ساعة لم تصمد في معركة ، ولم تقاتل عدوا ، فكانت نكبـة (5/ حزيران / 1967م) التي لم تعرف الدنيا لها مثيلا في سرعة الهزيمة وإنكشاف أنظمة السخيمة وهروب الجيوش ، وانقشع الظلام وذهب السراب ، فإذا الزعامات عارية ، وإذا الفكر عفن ، فكر الإباحية واستباحة الأعراض والأموال ، فكر فصل الدين عن الحياة . وإذا يهود في كل فلسطين من البحر إلى النهر ، وفي غير فلسطين من سيناء والجولان . وبدأت مرحلة جديدة حيث كانت نكبة 1967م بدايتها ، فالأرض المباركة لها رسالة كما يبدو من إستقراء التاريخ ، فيصل المسلمـون إلى الحضيض يوم سـقوط الأقصى وبقية الأرض المباركة في أيدي الكفـار ، ويكون هذا السقوط هو الآذان الذي يقرع الأسماع ويوقظ الغافلين ويهدي المتشككين ، هكذا كان في الحروب الصليبية ، فلم يتحرك المسلمون حركة صعود إلا بعد سقوط الأقصى والقدس في أيدي الكفار ، وهكذا في حروب التتار هب المسلمون ليصدوا الخطر عن فلسطين والقدس . وهم اليوم كذلك حيث فقدت زعامـات 67 وأفكـارها وساستهـا وهجها وبريقها ، وسقطت نظريات الكفر والإلحـاد ، وسقط مشروع فصل الأمة عن دينهــا الذي إنخـدعت طويـلا يخـرج من الظلمــات إلى النـور والحقيقـة ، وبـدأت الصحـوة الإسلاميـة تتفاعـل ببطء لا يراهـا إلا من عاشها من أولها . ثم وقعت حرب ( رمضان / 1973م ) حيث قاتل حيش مصر المسلم بعقيدته لأول مرة في العصر الحديث ، وكبر وهو يجتاز القناة ( الله أكبر .. الله أكبر ) ، واستغاث بالله العظـيم ، ومن يستغيث بالله يغثه ، ومن يستنجد بالله ينجده . فاجتــاز القنــاة بيسر عجيب ودخل سيناء وكاد أن يقضي على دولة يهـود .. لولا أن السادات كان متآمرا . فأوقف الزحف وبدأت الخيانة حتى وصـلت إلى ذروتهـا بإتفاق (كامب ديفيد) وبعدها ظن السادات واهما أنه سيكسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود ، وما علم أن هذا الحاجز أقامه الله في قرآنه ، وثبت قواعـده لؤم يهود وحقدهم . وتحطم الســادات ولم يتحطم الحاجز النفسي بين المسلمين عامــة (والمصرين خاصـة) وبين يهـود ، لأنه حاجـز أقامـه الله وما كان من إقامة الله لا يهدمــه بشـر .

وتفجرت الصحوة الإسلامية ثورة ثقافية في العالم الإسلامي ، وكان قمة تلك الصحوة تحول الشعب الجزائري إلى الإسلام بعد أن حاولت فرنسا تغريبه خلال مائة وخمسين سنة ، وإبعاده عن الإسلام ، والآن فإن الجزائر مهيأة لأن تقوم بها أول خلافة إسلامية بعد أن أزيلت وأبعدت الخلافة عن الحكم بعد عزل السلطان عبد الحميد ، وإن بشرى قيامها قد بدأت بإذن الله ، وكذلك بلغت ذروتها في إيران . فسقط الشاه وحكم علماء إيران ( الشيعة ) البلاد ، فأضطرب العالم كله .. هل عاد الإسلام إلى الحياة من جديد مؤثرا في الأحداث السياسية الدولية ؟‍!

وانشغلت جامعات العالم وصحافته وإذاعاته وتلفزته بالإسلام من جديد بين مهاجم ومحلل ونابش للتاريخ . وأراد يهود بأن يستعجلوا القضاء على الثورة الفلسطينية قبل أن يدخلها الإسلام فتعاونوا بذلك مع حكام العرب ، ولكن الثورة لم تنته ووقع المحظور ، ودخل الإسلام الثورة ، وبدأت بوادر ذهاب دولة يهود لتصدق الآيات والأحاديث التي نحن بصدد تفسيرها وتأويلها .

ونام أهل فلسطين ذات ليلة - كل فلسطين حوالي ثلاثة ملايين - كما ينام باقي البشر على تباغض وتحاسد واختلاف ، ويصبح الصبــاح فإذا هم على قلب رجل واحد " كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ، ويزهدون بالحيـاة ، ويزهدون بالمـال ، ويزهدون بالولـد ، وينزع الله مهـابة عدوهـم من قلوبهـم ، وذهبت الفـترة المـريرة التي قـال عنها رسـول الله صلى الله عليـه وسلم :" توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتهـا ، قالوا : أومن قلة نحن يومئـذ يا رسول الله ؟ ، قال صلى عليـه وسلم : بل إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله مهابتكم من قلوب عدوكـم ، وليقذفـن في قلوبكم الوهن ، قالوا : ما الوهن يا رسول الله ؟ ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) : حب الدنيا وكراهية الموت " .

ونزع الله حب الدنيا من قلوب أهل الأرض المباركة فعادوا في فلسطين ولبنان أسود تزمجر وجنود تقتحم ، مكبرين ومهللين ، فإذا فلسطين كل فلسطين تموج بالتكبير موجا وتطارد حجارتها الغزاة المغتصبين .

وإذا معجزة في الأرض تحدث ، لا يمكن أن تخضع لتحليل عقلي ولا لتفسير مادي ، وليس لها جواب إلا آية من كتاب الله ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) [ الأنفال : 63] . وبدأت تتبخر أحلام دولة يهود بدولتهم الكبرى من النيل إلى الفرات ، وانكشف حقيقة يهود للعالم ، وأنكشف حقدهم على الله وعلى الناس ، وكما هو الحجر من جنود الله في المعركة ، كان التلفاز من جنود الله في المعركة حيث كشف للعالم كله حقد ووحشية يهود .

وبدأ الرأي العالم العالمي يتململ من ظلم يهود ، وكل هذا تمهيدا لأن تزول هذه الدويلة من الوجود . ودخل الإسلام المعركة في فلسطين ، وأصبح المسجد دار القيادة ، والمأذنة تنادي ، والشعار ( الله أكبر ) ، والفرار دأب يهود اليومي ينزعجون من النداء حيث يحطم أعصابهم ويدخل الرعب في قلوبهم خصوصا إذا كان نداء جماعيا تقوم به المدينة أو القرية أو المخيم ، فتختلط تكبيرات المؤمن بتراتيل الملائكة الوافدين بإذن الله لنجدتهم ( إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) [ الأنفال : 9 ] . فإذا الذي يحملون بالحلول السلمية تتبخر أحلامهم مع الإنتفاضة ، وتسقط عقلانيتهم ودعوتهم للإعتدال والواقعية كما يدعون ، وهم من الذين لا يؤمنون بالغيب وبإرادة الأمة على تحقيق عزها بالنصر المبين . لا تحلموا ، فزوال دولة إسرائيل قدر مقدر ، وقضـاء مـبرم ، كما بينته الآيات في سور الإسراء والمائدة ، وفي غيرها من الآيات ، وما كان من القدر لا يبطله بشر .

إننا نعيش أيام التغيير في الأرض وعـودة الإسلام إلى الحياة لتعود لنـا الحياة ، ويعود لنا النصر ، ونحن والله على أبـواب الخلافــة الراشدة من جـديد حيث يصف الرسول صلى الله عليه وسلم مسيرة الحكم في المسلمين إلى يوم القيــامة فيقول :" تكون فيكم نبوة ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة راشدة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم يكون فيكم ملكا عاضا - ولاية العهد في العصر الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني - ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم يكون فيكم ملكا جبريا - أي الإنقلابات التي بدأت بالإنقلاب العثماني على السلطان عبد الحميد ، وأتمه أتاتورك ( لعنه الله ) ولم تتوقف الإنقلابات في بلاد المسلمين والعرب منذ ذلك الحين إلى هذا اليوم - ما شاء الله أن يكــون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تعود خلافة على منهاج النبـوة .. ثم سكت " .

يا أهل فلسطين في مخيماتكم ، في الظلم الذي تعيشون ، ظلم ذوي القرابة بالإضافة إلى ظلم يهود ، وظلم أمريكا وأعوانها وعملائها ، يا أهل الجليل في المهجر وفي الجليل ، يا أهل حيفا في المهجر وحيفا ، يا أهل عكا في المهجر وعكا ، يا أهل المثلث في المهجر والمثلث ، يا أهل يافا واللد والرملة في المهجر ويافا واللد والرملة ، يا أهل نابلس في المهجر ونابلس وفي كل قرية فيها ، يا أهل بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور في الداخل وفي المهجر ، يا أهل القدس وما أدراك ما القدس في المدينة وحولها ومن حولها ، يا أهل الخليل في المهجر والداخـل في كل قرية من قـراها ومخيم من مخيمـاتهـا ، يا أهل الناصرة وقراها في المهجر ، يا أهل غزة وما أدراك ما غزة في العرين وفي المهجر ،أبشروا بنصر الله قرب الفـرج وزوال دولـة يهـود . ألم تروا ما فعـلت حجــارتكم وما فعلتـه سواعدكم .. أبشروا بنصر الله (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا) [الإسراء :51] (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [البقرة : 214] .

مزيدا من التلاحم في الداخل والخارج ، مزيدا من القرب من الله ، مزيدا من تلاوة القرآن ، مزيدا من الدعاء والتضرع والبكاء إلى الله رب العالمين ، مزيدا من السجود في جوف الليل ، مزيدا من إحتقار الدنيا ، وطرق باب الجنة برؤوس يهود وأعوانهم .

يا أهل المخيمات في لبنان ، يا من تحملتم ظلم ذوي القربى وقتل نسائكم وأطفالكم بأيدي يهود والموارنة وأعوانهما ، يا أهل المخيمات في سوريا ، وفي الأردن ، لن يطول ظلمكم والظلام الذي تعيشون فيه حيث بدأت معركة الإسلام مع الكفر ، ومعركة المسلمين مع يهود وبدأ الحديث يتحقق :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الشجر والحجر : يا مسلم ، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر يهود " .

والسلام عليكم في المنتصرين والخالدين والمؤمنين ورحمة الله وبركاته

الشيخ أسعد بيوض التميمي

 
الإسراء وعلاقته بقضية المسلمين في الأرض المباركة

إشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من قريش ، حيث خافت قريش على ما يوفره الكفر لها من إمتيازات طبقية ودينية . وأخذ الصراع بين الحق والباطل يتصاعد بين الدين الجديد وما يمثله من خير للإنسان وما يعطيه للبشرية من حياة كريمة يعبد فيها الإنسان ربه الذي خلقه ، ويسجد لبارئه الذي أوجده فلا يسجد لبشر ، ولا ينحني أمام حجر أو شجر ، ولا يعبد فلكا ولا مظهرا من مظاهر الكون ، وإنما يستمد العزة لنفسه من عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .

اشتد الصراع بينه وبين الشرك ، وما يمثله من انحطاط في الفكر الإنساني والسلوك البشري الذي يظهر في السجود لحاكم أو كاهن أو حجر أو شجر أو فلك . ذلك الإنحطاط الذي ينتج عنه أن الغرائز في الإنسان تتحكم في مسيرته ، لا مقياس عنده يقيس به الأمـور ، ولا حلال ولا حرام ، وإنما كل أمر مبـاح : من قتل نفس ، أو ظلم إنسان ، أو أكل مال حرام ، إو إستعباد نفس ، أو إذلال للخلق . فلا عجب أن ظهرت الطبقية العرقية المتمثلة في السادة والعبيد ، والأشراف والسوقة . والطبقية الإقتصادية المتمثلة في الربا وأكل أموال الناس بالباطل ، واستغلال حاجة الآخرين للإثراء غير المشروع . والطبقية الدينية بحيث يصبح الدين وفهمه احتكارا على طبقة معينة وناس مخصوصين يستغلون جهل الناس ويطلبون منهم أن يعبدوهم ويطلبون منهم تقديم النذور والقرابين لهم ولما يمثلون .

وأخذ الكفر يقاتل عن مواقعه بشراسة حتى إضطر المسلمون إلى الهجرة مرتين فرارا بدينهم ، وحرصا على عقيدتهم ، وحتى يأذن الله بالفرج .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يقارع قومه الحجة ، يبين باطل ما هم فيه وما عليه حياتهم ، ولكنهم أصابهم الكبر وأشتد فيهم العناد ، وكان الله قد هيـأ له زوجة صالحـة تعتني بأمره وتدعمه بمالها ، وتخفف عنه قسوة عناد قومه ، وجهل عشيرته ، وهيـأ له كذلك عمه أبا طالـب يحميـه ، ويمنعهـم من قتله ، وإن لم يمنـع عنـه ما دون القتـل من الأذى ، وهم مع هذا يحسبون حساب عمه ( لإنه زعيم قريش ) .

ثم إن خديجة - رضي الله عنها - ، وأبا طالب ماتا في عام واحد قبل هجرته بثلاث سنين ، فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما ، وذلك أن قريشا وصلوا من أذاهم بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه ، حتى نثروا التراب على رأسه داخل البيت الحرام ، فقـامت إليه ابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أبـاك " ، رواه الطبري .

ولما إستعصت قريش ، وصمت آذانها ، وأغلقت قلوبها وعقولها ، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، فلما وصلها عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيـف وأشرافهـم ، وهم ثلاثة إخـوة : عبد ياليل بن عمرو بن عمـير ، ومسعود بن عمرو بن عمـير ، وحبيب بن عمرو بن عمير ، فردوه ردا غير جميل . فقال أحدهم :" هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك " ، وقال الآخر :" أما وجد الله أحدا يرسله غيرك " ، وقال الثالث :" والله لا أكلمك أبدا لئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك " .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خـير ثقيف ، وقد قال لهم ، فيما ذكره شيخ المؤرخين المسلمين الطبري :" إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى إجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتيبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعـة ، ورجـع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فلما اطمأن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ يناجي ربه مناجاة الصابر المحتسب يطلب منه المدد والعون حيث قومه لا يستجيبون للنور ولا يلتقون على الخير ، والطائف كانت أسوأ من مكة ، وأقسى من قريش . فأخذ يقول ، كما يروي الطبري :"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستعضفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكتـه أمري . إن لم يكن بك علي غضـب فلا أبالي ، ولكن عافيتـك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " .

تكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحادثة الإسراء
في هذا الجو القاتم الشرس كان الله بنبيه رؤوفا رحيما ، وكان حادثة الإسراء من مكة إلى القدس ، وكان المعراج من أرض المسجد الأقصى إلى السماوات العلا ، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى . وكان في الإسراء أكثر من معنى ، وأثره لا يزال على مر الأيام وكر السنين .

يكرم الله نبيه على صبره ، ويجازيه الجزاء الأوفى على تحمله ، فيستدعيه إليه ، ويقربه منه ، ويرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه حتى ولا الملائكة المقربون ، ويقدم له أرض الشام ، أرض فلسطين ، أرض القدس ، أرض المسجد الأقصى ، هدية إيمـان وجائزة رضـوان فيفـتح النبي صلى الله عليه وسلم أرض الشام ، ومنها ارض فلسطين فتحا ماديا بجسده الشريف . يعلن الله للدنيا في ذلك الحين ، وللدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجدا للمسلمين ، فيصلي فيه النبي الصلاة الإسلامية الأولى إماما للأنبياء المرسلين ، حيث أحياهم الله له ، ويصلي الصلاة الثانية بعده عمر وأبو عبيدة ، وكبار الصحابة والجنود المؤمنون يوم دخل عمر القدس ، وأستلمها من بطريركها صفرونيوس وأعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه :" أن لا يسكن إيلياء ( القدس ) أحد من اللصوص واليهود " . وذلك أن كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا على علم منه لا يعلمه بقية الناس . وهذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر يهود على هذه الأرض .

 

قدسية المسجد الأقصى
وسـورة الإسـراء تتحدث عن المسـجد الأقـصى ، وإسراء النبي إليـه ، فتقـول : بسم الله الرحمن الرحيم (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصـير) [الإسراء :1] . وقد بنى المسجد الأقصى بعد الكعبة بأربعين سنة ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض . فقال : (المسجد الحرام) . فقلت ثم أي ؟ ، قال : (المسجد الأقصى) . قلت كم بينهما ؟ قال : (أربعون سنة ، ثم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فحيثما أدركتك الصلاة فصل) " . فعاد للمسجد الأقصى بالإسراء قدسيته ، وطهره حيث كان المسجد خرابا يبابا لا يصلي فيه أحد إلى أن جـاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقررت مسجديتـه في القرآن ، وأستلمه عمر فكان ينظفه هو وأصحابه من النجاسة ، وطهروه وأصبح من يومها منارة علم ودار إيمان ومحجة زوار ومحراب صلاة .

إذن سورة الإسراء قد خلدت علاقة المسلمين بالمسجد ، وإن المسجد للمسلمين حيث أسرى بنبيهم إليه ، وتقرر السورة بركة أرض الشام ، ومنها أرض فلسطين ، وتبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد والعلو ليهود والتدمير الذي سيلحق بهم ، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء والمسجد الأقصى .

الإفساد الأول:

لا بد أن نقرر هنـا أن علماء التفسـير قد اختلفـوا اختلافــا كبيرا في : متى كان ( الإفسادان ) ؟ ومن دمرهمـا ؟ اللذان أشـارت إليهمـا الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى ( وقضينــا إلى بني إسرائيـل في الكتـاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) [ الإسراء : 4 - 5 ] . فقال قوم : هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر . قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . وقال قتادة :" أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد " . وقال مجاهد :" جاءهم جند فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر " . وقال محمد بن إسحق :" إنه سنحاريب ملك بابل " . وقيل : إنهم العمالقة ، إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة .

ونحن حين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نجد الأشياء الآتية :

أولا : الأيات مكية ، وتتحدث عن إفسادين وعلو واحد كبير ليهود ، فهل مضى هذان الإفسادان قبل نزول الآية أم أنهما آتيان ؟

مما لا شك فيه أن يهود دمروا أكثر من مرة قبل الإسلام ، وقبل نزول الآيات ، فقد سباهم البابليون ، ودمرهم الرومان ، وذلك أنه منذ أن غضب الله عليهم ، نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الله وأنبيائه ، جعلهم يتصرفون تصرفا يلجيء البشرية إلى إذلالهم وضربهم . يقـول الله تعـالى في سورة البقـرة [ الآية 61 ] ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصـوا وكانوا يعتــدون ) . ثم تقرر آية أخرى في سـورة أخرى أن العذاب سيستمر في يهـود والتدمـير لهم إلى يوم القيـامة ( وإذ تأذن ربك ليبعـثن عليهم إلى يوم القيــامة من يسومهم سوء العــذاب ) [ الأعراف : 167 ] .

إذن لا غرابة أن يكون الإفساد والعلو ثم التدمير لمرتين بعد نزول الآيات ، والواقع أن المتعمق في الآيات يجد أن المرتين اللتين أشارت إليهما آيات الإسراء في علو يهود وإفسادهم ثم تدميرهم هما بعد نزول آيات الإسراء .

وذلك أن الله يقول ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما ) ، واللام في ( لتفسدن ) لام الإستقبال والتوكيد . واللام في ( ولتعلن ) كذلك لام الإستقبال والتوكيد . والملاحظ أنه عبر عن إفسادين ولكنه قرن مع أحد الإفسادين علوا كبيرا . و ( إذا ) آداة ظرفية تدل على أن الأمر سيقع في المستقبل ، ولا علاقة لما بعدها بما قبلها ، فوجود كلمة " إذا " في الآية تدل على أن الإفساد الأول ثم التدمير الأول آتيان ، وأنهما لم يمرا ، كما أن استعمال "إذا " للمرة الثانية يدل على أنها آتية لم تمر كذلك . ثم يقول الله تعالى (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار) ، أي أن الذين سيتولون تدمير يهود هم من المؤمنين ، إذ أن الله سبحانه وتعالى حين يضيف كلمة "العباد" لذاته تكون في موضع التشريف ، ويخص بها المؤمنين ، كقوله تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) [ الفرقان :63] ، و(قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم) [الزمر : 53] ، و(سبحان الذي أســرى بعبـده) [الإسراء :1] . وأعظـم مـنزلـة للنبي صلى الله عليـه وسلم أنه (عبد الله ورسوله) ، وفي التحيات نقــول :"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" .

في إحصائية لورود كلمة ( بعثنـــا ) في كتاب الله الكريم نجد ما يلي : إن كلمة ( بعثنا ) استعملت سبع مرات ؛ خمسا منها للأنبياء عليهم السلام ، وواحدة لنقباء بني إسرائيل ( وبعثنا منهم إثني عشر نقيبـا ) [ المائدة : 12 ] ، وواحدة لمعاقبـة بني إسرائيل ( بعثنا عليكم ) .

إذن ( بعث ) ومشتقاتها ، نلاحظ أن المادة لا تستعمل في القرآن إلا في بعث الآخـرة وما يشابهـه . وبعث الأنبيـاء وما يشابهه ، ونلاحظ أن الفعـل الماضي المجرد ( بعث ) استعمل سبع مرات ، خمسا منها للأنبياء عليهم السلام ، وواحدة لبعث طالوت ، وواحدة لبعث الغراب .

إذن كلمة ( بعثنا ) استعملت للأنبياء وما يشبههم ، ولم تستعمل للكفار أو غير المؤمنين ، أي أن الذين سيبعثون مضافون إلى إسم الجلالة سبحانه وتعالى ، وسيكونون من المؤمنين وليسوا من الكفار .

وفي احصائية لكلمة ( عبادا لنا ) : نجد أن كلمة ( عبد ) في القرآن عامة للمسلمين وغيرهم ، بل لا بد من ملاحظة عبد وعباد المضافة إلى ضمير المتكلم ، حيث نجد أن كلمة ( عبدنا ) استعملت خمس مرات للأنبيـاء عليهم السلام فقط ، وكلمة ( عبادنا ) استعملت إثنتي عشرة مرة للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين فقط ، وإن صيغة ( عبادا لنا ) لم تستعمل إلا في هذا الوعد ، فاختصاص الصيغ المتشابهة بالأنبياء والمؤمنين وزيادة هذه الصيغة بلام الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ( لنا ) يجعل الصيغة دليـلا أو قرينة قوية على أن المبعوثين من المؤمنين فقط ، ومن نوعية خاصة منهم ، ومما يعطي هذه القرينة المتقدمة شيئا من القوة أيضا أن الله سبحانه وتعالى استعمل مادة البعث في الوعيد لبني إسرائيل ، ولكن جعل الصيغة في وعد التسلط عليهم ( ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب ) وعبر عن المبعوثين بـ ( من ) ، وقد عرفنا أن هؤلاء المبعوثين هم الوثنيون والمجوس والنصارى والمسلمون ، بينما جعل الصيغة هنا ( بعثنا ) وهي صيغة استعملها للأنبياء وللأولياء فقط عبر عن المبعوثين بـ ( عبادا لنا ) ، وهو تعبير فريد لم يستعمل ما يشبهه في الإضافة إليه تعالى إلا في الأنبياء والمؤمنين ، نعم ورد استعمال ( عبادي ) لغير المؤمنين أيضا ولكنه استعمال يجيء دائما في مقابل دعوى العبودية لغيره تعالى . إذن : إن الذين سيتولون تدمير يهود هم من المؤمنين ، لما مر من الشرح .

وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ولا على الرومان لأنهم جميعا من الوثنيين ، وينطبق هذا الوصف على رسول الله وأصحابه الذين جاءوا إلى المدينة وليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي ، وكان من أول أعماله صلى الله عليه وسلم في المدينة إبرام المعاهدة السياسية بينه وبين يهود والتي نصت على أن يهود أمة ، وأن المسلمين أمة . فلما غدر يهود ونقضوا العهد كعادتهم ودأبهم سلط الله عليهم المسلمين فجاسوا خلال الديار اليهودية وتغلغلوا فيها وأزالوهم عن المدينـة وخيبر وتيماء ، فزال سلطانهم ، وتم تدمير فسادهم من خلال معارك بني قريظة وبني النضير ومعارك خيبر الشهيرة ، وتأتي سورة الحشر لتؤكـد هذا المعنى في قوله تعـالى في وصف معـارك المسلمين مع يهود في المدينـة ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فأعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] . و " الحشر " هنا هو إخراج يهود من الحجاز تمهيدا لحشرهم في ديار الشام للإفساد الثاني والعلو الكبير - كما هو الآن - ثم التدمير .

وقفة عند بعض معاني الآية

( أولي بأس شديد ) : أي أولي مكروه شديد ينزلونه بالعدو ، والبأس والبأساء بمعنى المكروه والشدة ، ويستعملان في النكاية بالعدو كما في مفردات الراغب الأصفهاني ، بينما ( أولو قوة ) تعني أولي وسائل حربية وجنود ، فالقوة في مجال الحرب تعني المعاون من خارج النفس كما ذكر الأصفهاني أيضا ، ولذلك وردا في القرآن معطوفين في قوله تعالى ( قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ) [ النمل : 33 ] ، أي نحن أولو سلاح وجنود ، وأولو مكروه ننزله بالأعداء . إن وصف الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المبعوثين على يهود بأولي بأس شديد دون أولي قوة ، له بعدان :

الأول : إن الغرض الأساسي في وعد يهود بالعقوبة هو بيان أن هؤلاء المبعوثين ، سينزلون المكروه الشديد بهم ، وهو يتناسب مع ذكر البأس .

الثاني : إن عدم ذكر قوة هؤلاء المبعوثين والتي تعني وسائل حربهم وكثرة جنودهم أمر مقصود ، لأنهم قد لا يملكون هذه الكثرة ولا يكونون أولي قوة كثيرة ، ومع ذلك فهم أولو بأس شديد ، وهذا هو حال المسلمين عندما قضوا على إفساد يهود الأول في صدر الإسلام ، وهو حالهم عندما سيقضون عليهم ، ويتبرون علوهم الكبير بإذن الله في المرة الثانية .

( فجاسوا خلال الديار ) : استعمل القرآن الكريم وللمرة الوحيدة هذا التعبير الذي هو في اللغة العربية كالمصطلح العسكري لدخول المقاتلين وهم يتتبعون بقايا مقاتلي العدو ، أي سيترددون بين بيوت يهود لتتبع مقاتليهم وهو أدق تعبير من القضاء على القوة القتالية ليهود ، وهو بالضبط ، ما فعله المسلمون عندما بعثهم الله على يهود في صدر الإسلام .

(وكان وعــدا مفعــولا) : لم يستعمـل القـرآن الكريم هذا التعبـير إلا في هذا الموضـع ، واستعمل تعبيرين قريبين منـه ، أولهما في نفس سورة الإسراء وبعد قوله لبني إسرائيـل (فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) [الإسراء : 104] ، وقال تعالى (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العـلـم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعـولا) [الإسراء : 107-108] ، وثانيهما في خطابه تعالى لمشركي قريش بعد تشبههم بفرعون وذكر ما حل به (فكيف تتقـون إن كفرتم يوما يجعـل الولدان شيبا * السماء منفطر به كان وعده مفعولا ) [المزمل :17 - 18] .

أما قوله تعالى ( سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) فهو حكاية لقول العلماء في حق القرآن . فيبقى إستعمالان من قبل الله تعالى لـ " الوعد المفعول " ، أحدهما إنذار لفراعنة قريش بوعد اليوم الآخر الذي لا يطاق ، والثاني إنذار ليهود بيوم المسلمين عليهم الذي لا يطاق .

الفرق بين معنيين

الفرق بين فعل ( فجاسوا خلال الديار ) الذي يوحي بسرعة هزيمة يهود وسهولة القضاء عليهم وبين أفعال الثانية ( ليسوءوا ، وليدخلوا ، وليتبروا ) التي توحي بضراوة المقاومة وترسم للمواجهة صورة عنيفة ، لا يُهدّئها دخول المسجد في وسطها ، بل يأخذ منها عنف التحدي وفرحة الإنتصار .

تأمل في الإفسادين والعلو الوارد في الآية ترى أن الله سبحانه وتعالى تكلم عن إفسادين لبني إسرائيل ، وعندما تكلم عن العلو ، لم يقل : ولتعلن علوين كبيرين ، وإنما قال ( ولتعلن علوا كبيرا ) . إذن سيكون العلو الكبير مرة واحدة مصاحبا لأحد الإفسادين ، والمتأمل للإفساد الأول يجد أنهم كانوا قبائل ليس لها سيطرة على من حولها ، ولذلك لم يتمكنوا من العلو ، وأما المرة الثانية والتي يعيشونها الآن ، فإنهم قد علو علوا كبيرا ، وسيطروا على من حولهم من المسلمين ، بدعم من دول الكفر مجتمعة ، وسيطروا على الأرض المقدسة وقتلوا المسلمين شيوخا ونساء وأطفالا ، فمن معاني العلو قمة الفساد كما قال تعالى في حق جبروت فرعون ( إن فرعون علا في الأرض ) [ القصص : 4 ] . إذن العلو الكبير لم ينطبق تاريخيا إلا على علو يهود في هذه المرة التي تأتي مع الإفساد الثاني في الأرض .

الإفساد الثاني:

التدمير الأول كان إخراج يهود من الحجاز . فخرج قســم منهـم إلى (أذرعات) من أرض الشام حتى تبدأ المرة الثانية من إفسادهم وعلوهم ، يقول الله تعالى ( وكان وعدا مفعولا ) [الإسراء :5] ، يعني أنه تم تدمير الإفساد الأول في عهد النبي ، والوحي ينزل ، وأتمه أصحابه من بعده . وتبدأ الآيات بعد ذلك تتحدث عن المرة الثانية في الإفساد يصاحبه العلو الكبير ، فتخبر الآيات أن الله سبحانه وتعالى سيجعل ليهود الكرة عليهم ، على من ؟ على الذين جاسوا خلال الديار أول مرة ، ( والكرة ) الدولة والسلطة . وحين أراد الله ليهود أن يكروا استعمل كلمة ( ثم ) . وثم : كما هو معروف ، معناها العطف مع التراخي والمهلة . فهل كر يهود في التاريخ على البابليين ؟ ، وكانت لهم دولة وسلطة عليهم ؟ لم يحدث ذلك في التاريخ ، ولن يحدث الآن ولا في المستقبل ، حيث إن البابليين قد إنقرضوا من الدنيا كأمة ، وليس لهم كيان يعرفون فيه ، أو دولة يعيشون فيها . وحاشا لله أن لا يصدق القرآن أو يكون خبره غير محقق . إذن لا بد أن تكون الكرة على أبناء من جاسوا خلال الديار ، وهم المسلمون أو العرب المسلمون ، فقد كر يهود على بلاد الشام وفلسطين منها . وهذا هو الذي حدث ونعيشه الآن ، ويعاني منه المسلمون كل المسلمين ، وما ينطبق على البابليين ينطبق على الآشوريين والكلدانيين وغـيرهم من الدول التي عاقبت يهـود عبر التاريخ .

واقرأوا معي بقية الآيات التي تمضي فتصف الواقع الذي نعيشه وتعيشه دولة يهود ، إذ بعد أن جعل الله الكرة ليهود علينا ، يقول الله تعالى ليهود (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) [الإسراء : 6] . وهنا نسأل مرة أخرى : هل أمد الله يهود بأموال وبنين غير هذه المرة ؟ لم نعرف أن ذلك قد حدث في التاريخ ، ويهود منذ أن غضب الله عليهم وهم في بلاء متصل وعذاب مستمر ، فقبل الإسلام كان عذاب البابليين لهم والرومان . وبعد الإسلام أخرجهم المسلمون من الجزيرة ثم بدأت أوروبا تعذبهم في إسبانيا وفي بقية أقطارها حتى جاء المسلمون فأنقذوهم من الإسبان ، واستمر العذاب لهم حتى هذا القرن . ولقد عاش يهود في ظل دولة الإسلام عبر القرون آمنين مطمئنين ، تحفظ لهم دماءهم وأموالهم ، ولكنهم لم يحفظوا الجميل .

وحتى نرى مبلغ صدق الآية ، ونرى إعجازها بأعيننا نجد دولة يهود اليوم تعيش على البنين الذين يأتونها من أطراف الأرض ليمدوها بالجند ، وفي هذه الفـترة من روسيـا بالـذات ، وترى الأمــوال من دول الغرب تأتيها بمساعدات مذهلة حتى تستمر في عدوانهـا وطغيانهـا وجبروتهـا . ثم يقول الله سبحانه وتعـالى ( وجعلناكم أكثر نفيرا ) ، ولذلك فإن أكبر قوة عسكرية في الأرض تساند دولة يهود في حال نفرتها وحربها ( أمريكا والحلف الأطلسي ) .

إذن هذا هو العلو ، فما بال الإفساد ؟ وحتى يتحقق الإفساد ، فنرى يهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم ( من هتلر وغيره ) ، ولذلك يحذرهم الله فيقول لهم ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] . وهذا الإحسان دنيوي يجازون عليه في الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) [ البقرة : 200 ] . ويهود قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها ويتموا الأطفال ، وسجنوا النساء ، وهدموا البيوت ، واغتصبوا الأرض وأقاموا المستعمرات ، وحرقوا الأقصى في (21 / أيلول / 1969م ) ، والأقصى عند الله عظيم ! ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام ، والخليل عند الله هو الخليل . وأرتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله فمزقوه وداسوه بالأقدام ، وقتلوا المصلين وهم ساجدون بين يدي الله ترتفع تسبيحاتهم إلى الله في فجر يوم الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان المبارك 1414هـ ، فقتلهم كان في فجر يوم مبارك في شهر مبـارك في مسجد من أعظم المساجد عند المسلمين . في حجر أبي الأنبياء والمرسلين الذي أتخذه الله خليلا (واتخذ الله إبراهيم خليـلا) [النساء : 125] .

ولذلك فإن الله سيسرع في عقوبتهم لأن الله يمهل الظالم كما جاء في الحديث حتى إذا أخذه لم يفلته . وقد أخذوا لبنان غدرا وخيانة ، وارتكبوا فيه ما لم يرتكبه أحد من البشر قبلهم هم و ( الموارنة ) الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين ، والموارنة الذين يرتكبون جرائمهم باسم الصليب -وهذا احتقار المسيح عليه السلام- والمسيح منهم براء . ولقد أعلنت في خطابي أمام جماهير المسلمين في عمان في يوم عيد الأضحى المبارك ( 1402هـ / 1982م ) أن الموارنة لم يعودوا أهل ذمة في ديار المسلمين ، وأنهم نقضوا العهد الذي أعطاه عمر -رضي الله عنه- لنصارى بلاد الشام في ( العهدة العمرية ) ، وبذلك تسبى نساؤهم وذراريهم كما فعلوا في المسلمات وأطفال المسلمين في مخيمي صبرا وشاتيلا .

وهنا تأتي عقوبة الله لهم على ما أقترفوه من الإثم والجرائم ، بتفسير من الآيات أن دولتهم لن يطول إفسـادها ولا علـوها ، فيقـول الله ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبـيرا ) [ الإسراء : 7 ]. وهنـا حين يخـبر الله عن زوال دولتهم ، استعمل حرف ( الفاء ) للعطف ، ولم يستعمل ( ثم ) . والفاء للعطف مع التعقيب . والتعقيب لكل شيء بحسبه وما يناسبه ، وهو يدل على السرعة في حصول المقصود ( فإذا جاء وعد الآخرة ) ، أي لذهاب علوهم ، تصبح وجوه بني إسرائيل سيئة . ويبشرنا ربنا جلت قدرته ، أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ، وهذه المرة الأولى :

الفتح العمري للقدس ودخول المسجد حين دخله صلحا ، والذي يبـدو من سيـاق الآية أن الأقصى والقدس وفلسطين سترجع على ثلاث مراحـل :

المرحلة الأولى : إساءة الوجه . . وهذه تكفلت بها الإنتفاضة التي لم يصنعهـا أحدا من القيـادات الفلسطينية وإنما هي من تدابير الله . و " الفاء " هنـا في قوله سبحانه وتعالى ( فإذا جاء وعد الآخرة ) يسميها علماء النحو " الفاء الفجائيـة " ، فسيتفاجىء العالم بالأمر ، فهل هذا الأمر هو قيام الخلافة الإسلامية من جديد ؟؟ .

المرحلة الثانية : هي دخول الأقصى كما دخله عمر - رضي الله عنه - حيث دخله بصلح ، فهل ستؤدي هذه المفاوضات التي تجري الآن بين حكام الخيانة من العرب وبين يهود إلى دخول المسجد وإرجاع بعض القدس ؟ .

المرحلة الثالثة : هي التدمير الكامل لدولة يهود . وفي هذه الآية إشارة إلى الأسلحة المتطورة ، فإن السلاح الذي يجعل العمارات الشاهقة على مستوى التراب هي الأسلحة المتطورة وليست الأسلحة التقليدية .

والمرة الثانية : هي هذه التي نحن على أبوابها ، حيث سيدخل المسلمون المسجد فاتحين للمرة الثانية ، ثم يقرر الله أننا سنتبر أي ندمر ونهلك علو يهود المادي والمعنوي .

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فلسطين لم تعرف العمارات ذات الطوابق ، التي تصل إلى عشرين طابقا أو أقل أو أكثر ، إلا في ظل اغتصاب يهود لها ، ولذلك فإن هذه العمارات الشاهقة التي يقيمونها في الأرض المباركة سيلحقها الدمار والخراب . ثم تمضي الآيات فتحذر يهود من محاولة العودة للإفساد والتعالي ، فيقول الله (وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) [الإسراء : 8] ، وتأتينا البشرى من الله بعد أن يفهمنا ربنا أن القرآن يهدي إلى الطريق السوي والحياة الصحيحة ، تأتينا البشرى بالنصر فيقول (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء : 9] . وفي آخر سورة الإسراء آية أخرى تتعلق بهـذا الأمر ، وهي قوله تعالى (وقلنا من بعــده لبني إسرائيل أسكنوا الأرض فإذا جاء وعــد الآخرة جئنا بكـم لفيفا) [الإسراء : 104] ، أي تفرقـوا في الكرة الأرضية وهذا من غضب الله عليهم ، و " لفيفا " أي جماعات .. جماعات ملتفة ( وهكذا يأتي يهــود مهاجرين إلى فلسطين ) . وفي بقيـة الآية إنــذار ليهود وبشرى لنــا ، فيقول الله ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) [ الإسراء : 105 ] . فإذا ربطنا هذه الآيات وتفسـيرها بالحديث الذي يدلنـا على صدق النبوة ، ومعجـزة الرسـول صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا عن قتال يهود فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم وهو قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الشجر والحجر : يا مسلم ، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر يهود " . والغرقد شجيرة صغيرة كثيفة الأغصان تزرع الآن في كل أنحـاء فلسطين ولا يزال أهل ( النقب ) بفلسطين يسمونها ( الغرقد ) ، ولها أسماء أخرى في بقية أنحاء فلسطين ، ويزرعها يهود بأيديهم .

وهذا هو السبب في أنه لم تنجح المحاولات لتثبيت دولة يهود . وذلك أنه منذ سنة 1948م ، وكل محاولة للصلح وتثبيت دولة يهود يفشلها يهود انفسهم ، وذلك لأن يهــود لا يعالجون أي أمر إلا بالحقد والتـآمر والخديعـة . ويقرر الله أن لا عقـل عندهم فيقـول (لا يقاتلـونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهـم شـديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [الحشر : 14] . وذلك كله يجري حتى يأتي اليوم الموعود يوم تتخلص المعركة من الأيديولوجيات المنافية للإسلام . وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث قتـال يهود أن الحجر والشجر سينطق ويقـول :"يا مسـلم ، يا عبد الله ، خلفي يهودي فتعال فأقتله" . إذن لن يكون قتال النصر في فلسطين قتالا يمينيا ولا يساريا ، وإنما سيكون قتالا إسلاميا في سبيل الله كما كان دائما قتال النصر للمسلمين، ولذلك لا عجب أن لا ننتصر على يهود حتى الآن ، لأننا لم نقاتل بالإسلام ، فلو إنتصرت الأنظمة العربية لكذب القرآن !!. لأنها أنظمة كافرة ، تحكم بالربا ، وتبيح الزنا والخمر والميسر ، ولا تستعد لقتال عدوها ، وقد ألغت الجهاد من حياتها وبرامجها ، ويعيش حكامها حياة غير إسلامية . وكان من المستحيل أن تنتصر الثورة الفلسطينية بوصفهــا التي كانت عليه ، لأنها لم تتخذ الإسلام طريقــا وأسلوبا ومنهاجــا . والله يقول ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ محمد : 7 ] ، فما نصروا الله حتى ينصروا .
 
الأرض المباركة

الآية السابقة الذكر في سورة الإسراء قد نصت على بركة الأرض التي تحيط بالمسجد الأقصى ، وكذلك آيات أخرى نصت على هذه الـبركة مثل قوله تعالى في سورة الأنبيـاء في حق الخليل إبراهيم عليه السلام (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) [الأنبياء : 71] ، وقوله (وجعلنا بينهم وبين القـرى التي باركنا فيهـا قـرى ظاهـرة وقدرنا فيهـا السير سيروا فيها ليـالي وأياما آمنين) [سبأ : 18] ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى (ولسليمان الريح عاصفـة تجري بأمره إلـى الأرض التي باركنا فيها) [الأنبيـاء :81] . وقوله تعالى (وأورثنـا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) [الأعراف : 137] . وبالإضافة إلى عشرات الأحاديث النبوية الشريفة .

والبركة هي الزيادة في كل شيء . وليست بركة هذه الأرض مادية فقط ، وإنما بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية بركات معنوية تتمثل في أنها عش الأنبياء، ولذلك فكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه في بيت المقدس عند وفاته بإعتباره عش الأنبياء ، وكانت لم تفتح بعد . وهي مهبط الوحي ، وهي مسرى النبي ومعراجه صلى الله عليه وسلم منهـا ، وهي القبلـة الأولى ، فقد صلى المسلمون إلى مسجدها أربع سنـوات ونيف ، منها ثلاث سنوات في مكة حيث فرضـت الصلاة في السنة العاشرة من البعثـة ، فأمر النبي والمسلمون معه أن يصلوا إلى القدس ، وأن يجعلوا الكعبة بينهم وبين القدس ، وصلى سبعة عشر شهرا إلى القـدس في المدينـة . ومسجدها تشـد إليـه الرحـال ، كما ورد في الحديث الذي رواه البخـاري ومسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم :"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" .

ومن بركة هذه الأرض أنه حينمـا يبتعد المسلمون عن محـور عزهم ومركز قوتهم ، وهو الإسلام ، يضعفون ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم ، فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى ، وعندها يتحرك المسلمون حركة حياة جديدة ، وينفضون غبار الهزيمة فيعملون لاستخلاص هذه الأرض ، فعن طريق استخلاصها يتم توحيد الأمة .

ولذلك لن يصل أحد إلى حل عادل مع يهود وأعوانهم حتى يأتي أمر الله ويتوحد المسلمون ويعود الإسلام محركا للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله .

وقد ظهرت بركة هذه الأرض في الحروب الصليبية ، إذ بعد أن أخذها الصليبيون وظنوا أن الأمر قد استقر لهم ، كانت حروبهم سببا في توحيد المسلمين من جديد ، فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المبعثرة ، وأخذ الراية منه صلاح الدين ، فكانت حطين النصر المبين ، وكانت معركة القدس فيما بعد ودخلها رحمه الله ، فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجدها إلى قدسيته وطهره .

رباط أهل الشام

وقد قدر لأهل الشام وفلسطين منها ، أنهم مرابطون إلى يوم القيامة حيث الكفار لا يتركون الأرض المباركة يستقر أهلها وهم يريدون إزالة مسجدها ليقيموا عليه الهيكل اليهودي .

روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإمائهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون ، فمن نزل مدينة أو قرية من المدائن فهو في رباط ، أو ثغر من الثغور فهو في جهاد " . وقدر أهل الشام كذلك ، أن ينتقم الله بهم من أعدائه . فعن خريم بن مالك :" إن أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده ، وحرام علي منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم ولا يؤتون إلا هما وغما " . رواه الطبراني مرفوعا وأحمد موقوفا ورجاله ثقات .

عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول :" الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة ، فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئــذ " . رواه الحاكـم وقـال صحيـح الإسنـاد . وقد روى أبو بكر بن شيبـة عن أبي الزاهرية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" معقل المسلمين من الملاحم دمشق ، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطــور " .

وعلى هذا فالأرض المباركــة بركتها بالإضافــة إلى الأشيــاء المــادية التي ذكرها المفسرون من الثمار والأشجار والأنهار والأرض المعطاء والسهل الخصيب والجبال العالية والأرض المنخفضة التي تجعلك تنتقل في ساعة أو أقل من مستوى سطح البحر إلى العلو الشاهق إلى الغور المنخفض ، فهناك البركة المعنوية ، والبركة المادية تتصاغر أمام البركة المعنوية ، وباركها الله فجعلها القبلة الأولى يصلي إليها المسلمون ، وأسرى بنبيه إليها ، وعرج من مسجدها إلى السماوات العلى ، وجعل مسجدها الأقصى تشد إليه الرحال ، وهي عش الأنبياء ، وهذا مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذهب بنفسه لإستلام القدس ، ولم يذهب لإستلام المدائن ولا مصر ولا العراق رغم أنها بلاد هامة غنية .

الوطن البديل

حين يتحدث يهود وأعوانهم عن (الوطن البديل) للفلسطينيين فهم يظنون أن أي أرض يمكن أن تستبدل بالأرض المباركة ، ويظنون أن الأمر أمر اسكان (لاجئين) أو استقرار مشردين ، وهم يتجاهلون أن هذه الأرض لا تدانيها أرض أخرى ، ولا يمكن أن يقـوم مقامها وطن بديل في أي بقعـة من بقاع الكرة الارضية، إذ أن هذه الأرض مرتبطة بعقيد المسلمين ، سجلت في كتاب الله بوصفها القبلة الأولى ، وبوصفها مسرى النبي ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبوصفها الأرض المباركة ، ولذلك فهي لا تخص الفلسطينيين وحدهم ، ولا تخص العرب وحدهم ، بل هي تخص المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا ، وما دام كتاب الله (القرآن) موجودا على الأرض يتلى ، وفي الأرض مؤمنون فليس هناك إستقرار لدولة يهود ، وهي في طريقها لأن تصبح من مخلفات التاريخ كما أصبحت دولة الصليبيين من قبلها من مخلفات التاريخ تؤلف الكتب عن أسباب زوالها ، ويكتب الباحثون أبحاثهم ويعطي العلماء آراءهم في ذلك ، إنهم ينسون الحقيقة الأزلية وهي استحالة أن يملك هذه الأرض غير المسلمين وأن تبقى في حوزة أعدائهم طويلا .

والواقع أن العالم كله لا يفقه القضية الفلسطينية أو القضية اليهودية بالأحرى ، وإنما كل فئة تنظر إلى القضية من زاوية معينة تتفق مع مصلحتها ، وهذه النظرة بالنسبة لمصالحها صحيحة . فالغرب ينظر للقضية على أنها امتداد للحروب الصليبية وأن يهود أداة في يديه لتمزيق الوطن الإسلامي والسيطرة على بلاد المسلمين وتهديدهم حتى لا يفيقوا مرة أخرى ، فيتصدوا لقيادة الدنيا وإنقاذها مما تعانيه . والشيوعية ( قبل أن تزول ) تنظر إلى القضية على أن بقاء دولة يهود في بلاد المسلمين أمر ضروري لإيجاد التناقض الطبقي حسب الفكر المادي ، وهي مع بقاء دولة يهود ، و تحارب الطبقة الحاكمة في إسرائيل حربا طبقية بإعتبارها عميلة للغرب ، ويهمها أن يبقى التناقض وعدم الاستقرار في المنطقة ، لأن ذلك حسب وجهة نظرها يغذي الحركة الشيوعية وينميها ، وقد ثبت فشل هذه النظرية عمليا وسقطت الشيوعية مع سقوط الإتحاد السوفياتي .

وأهل البلاد الذين أخرجوا من ديارهم ( الفلسطينيون ) ، ينظرون إلى القضية من زاوية أنهم شعب ظلم وشر وأضطهد ، فهم يريدون حياة الإستقرار في الأرض التي ولدوا فيها أو نبت آباؤهم فيها ، أو دفن أجدادهم في ترابها فهم يحنون بفطرتهم إليها ولا يريدون في الدنيا أرضا تكون بديلا لها وهذا صحيح . ولكن هذه النظرات المختلفة للقضية من زواياها المختلفة ليست هي القضية . وإنما القضية تتعلق بالعذاب المكتوب على اليهود عبر التاريخ نتيجة لسوء تصرفهم ولحقدهم على الإنسانية .

حتمية زوال دولة إسرائيل

لقد حاول العالم منذ 1948م والقوى الكبرى في العالم أو الغرب على وجه التخصيص ، أن يثبت إسرائيل دولة قوية ، فوضع الحلول وحاك المؤامرات . ولكن المؤامرات تفشل والطبخات تحترق ، وذلك بقدرة الله وثم معاونة يهود أنفسهم حيث يرفضون كل ما يعرض عليهم حتى يأتي يومهم الموعود ، وقدرهم المرصود فتزول دولتهم بآثامها وشرورها . وإن الغرب اليوم يحاول جاهدا لإنقاذ دولة يهود من مصيرها المحتوم وقدرها المرسوم رغم أنفها ، ولكن يهود يتمردون على من أوجدهم ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وصدق الله إذ يقول في حقهم ( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) [ الحشر : 14 ] .

فإذا تأملنا هذه الآيات في ضوء حديث البخاري ومسلم - الذي يقول فيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فليقتلهم المسلمون "  . علمنا المصير الذي ينتظر دولة يهود .

حتمية دولة زوال إسرائيل في ضوء آيات المائدة

كان الله قد شتت يهود في الأرض بعد موسى عليه السلام ، ولم يحدث لهم تجمع ولا سلطة يعتد بها إلا في فترات قصيرة مع بعض انبياءهم ، وحين تجمعوا في أرض الجزيرة العربية ، في أرض الحجاز ، وكانوا يعلمون من كتبهم ، وأخبار أنبيائهم أن النبي الأخير سيخرج من جزيرة العرب ، فرحلوا إليها قبل البعثـة بفـترة طويلة عل هذا النبي يكون من بينهم ، ولقد نمت قوتهم في هذه الفترة إقتصاديا ، فكانت التجارة والزراعة في المدينة وما حولها وفي خيبر وتيماء بأيديهم . وكانوا يكونون مجتمعا مستقلا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة وكون نواة الدولة الإسلامية الأولى ، عقد مع يهود معاهدة سياسية حدد فيها العلاقات بين الطرفين وكيفية التعامل .

فلما نقض يهود العهد والميثاق ، كدأبهم ، وتآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، وعلى الدولة الجديدة ، إضطر إلى محاربتهم وهدم واستئصال إفسادهم في الجزيرة العربية كلها ، وهكذا كان .

وأما المرة الثانية من الإفساد المصاحب بالعلو الكبير فهذه التي نعيشها الآن وقد بينت ذلك مفصلا في تفسير سورة الإسراء في الصفحات السابقة .

عداء النصارى ليهود

بقي يهود بعد التدمير الأول متفرقين في الأرض ، يعيشون في كنف الشعوب والأمـم ، وأصــبح لهـم في كـل مدينــة كبـيـرة في العـالم حي منغلـق يعـرف باسمهــم ( غيتو ) . وكانت وسيلتهم في مد نفوذهم هي الربا والإحتكار والغش والقمار ونشر الفساد والزنا . إذ أن ( اليهودي ) في عقيدته ليس من كان أبوه يهوديا ، بل من كانت أمه يهودية . وهذه العقيدة اليوم تثير مشاكل في زعزعة دولة يهود ، إذ إن كثيرا ممن ضحوا في سبيل كيان ما يسمى بـ ( دولة إسرائيل ) وتزوجوا غير يهوديات ، لا يصح لأبنائهم أن ينالوا ( شرف ) الإنتماء إلى يهود ، أما من كانت أمه يهودية فينال (شرف) الانتساب إلى اليهود بغض النظر عن الأب من أي جنس أو دين أو لون كان .

وهكذا عاش يهود في الأرض مشتتين ، وقد سبب ذلك لهم أن الشعوب أخـذت تضطهدهم وخصوصـا النصـارى الذين كانوا يوجهون بقيادة الكنائس المختلفـة ، وكانت معاداة النصارى ليهود معاداة مبنية على العقيدة لدى الطرفين ، فالمسيح الموعود في عقيدة يهود لم يأت بعد ، وهم لا يعترفون بالمسيح عليه السلام، بل اتهموا مريم عليها السلام بالزنا مع يوسف النجار - والعياذ بالله - ، وافتروا أن عيسى عليه السلام هو ابن ليوسف النجار ، وأما مسيحهم الموعود فهم ينتظرونه حتى اليوم ، مما جعل يهود في عهد عيسى عليه السلام ( وقد أرسل إليهم ) يتآمرون عليه ويوشون به لدى السلطة الرومانية التي حاولت أن تلقي القبض عليه وتصلبه ، ولكن الذي حدث أن الذي وشى بالمسيح عليه السلام هو يهوذا الأسخريوطي ، وكان يشبه المسيح عليه السلام وهو الذي تم القبض عليه وهو الذي عذب وصلب . ويسجل الله هذه الحادثة في القرآن الكريم ويبين الله أسباب غضبه على يهود فيقول تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين إختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) [النساء : 155-159] .

لذا في عقيدة النصارى أن يهود قد صلبوا المسيح ، وجاءت نصوص في الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى حاليا تحمل يهود دم المسيح ، وأن اللعنة تلحقهم إلى يوم الدين ، ومن هنا تركزت العداوة بين يهود والنصارى عبر التاريخ . ولما كان النصارى هم أصحاب السلطات في الغرب (أوروبا وأمريكا) فعمدوا إلى يهود فاضطهدوهم وعذبوهم وقتلوهم . فلم تبق دولة أوروبية إلا وأضطهدت يهود باسم المسيحية .. في إنجلترا ، في فرنسا ، في ألمانيا ، في إيطاليا .. وغيرها ، كانت تسن القوانين لإضطهاد يهود ، وتضيق الخناق عليهم بحيث تكون حياتهم قاسية مريرة . وكان يهود يردون على هذه القوانين بأساليبهم الخاصة ، بتخريب اقتصاد تلك الدول بالدس والخديعة وتخريب الأخلاق وإشعال الحروب .

يقـول الدكتور صابر عبد الرحمن طعيمة في كتـابه (اليهود بين الدين والتاريخ) :" مهما اختلف الرأي حول البواعث الحقيقية لعمليات الطرد والتعذيب التي كان يلقاها يهود في أوروبا تضييقا واضطهادا من قبل مسيحيي أوروبا ، فإنه حدث وخاصة في عام (1348م) و(1349م) أن قام المسيحيون بموجة من الاضطهاد ليهود ، كان فيها المسيحيون يتخذون من قتل يهود وسيلة للتقرب إلى الله الذي يكرههم ويمقتهم . كان يهود يبذلون جهدهم لمقاومة موجات الإضطهاد الأوروبي ، فإن موقف الشعوب الأوروبية بمختلف اتجاهاتها كانت ترى التخلص من يهود تحررا من الخطر الرابض وسط التناقض الأوروبي والمخطط له من قبل يهود لإستبقائه وتعميق أسبابه .

وإني أقدم أمثلة لما قامت به دول أوروبا المسيحية من عذاب لليهود على مر التاريخ " .

- ألمانيا تضطهد يهود :

لقد حدث في أغسطس سنة 1401م أن أصدر الملك روبرشت (1400-1410م) قرارا بطرد جيمع يهود من إقليمي الراين وبافاريا ، كما حرص الملك على وجوب إرتداء اليهود ملابسهم الخاصة التي سبق أن ابتدعهـا عام 1210م البابا (ينوسينت الثالث) ، ومن ثم أخذت هذه العادة تنتشر في كثير من الدول الأوروبية .

وظل يهـود عرضـة للتقتيـل والحرمـان والـتشريد حتى جـاء فريدريك الثـالث (1470-1493م) فشعر بعبء الضائقة المالية التي تعانيها البلاد بسبب القيود التي فرضتها الكنيسة وأصحاب الجاه من الإقطاعيين على الأهالي ، سواء أكانوا مسيحيين أم يهودا ، فتدخل القيصر وأعلن حمايته ليهود ، ولكن حدث أن وجد طفل لم يتجاوز الثانية من عمره مقتولا في ترنيت بإيطاليا عام 1445م ، وأتهم المسيحيون اليهود بقتله، وأنتشرت المذابح هناك ، ومنها إنتقلت إلى مدينة نورنبرغ الألمانية حيث تعرض يهودها لكثير من الأعمال الوحشية عام 1476م .

وحدث أن مجلس مدينة نورنبرغ تقدم برجاء عام 1473م إلى القيصر فريدريك الثالث بطرد جيمع اليهود من المدينة ، فأهمل القيصر هذا الرجاء حتى جاء القيصر ماكميلان الأول ( 1493 - 1519م ) ، وأصدر في يوليو عام 1498م قرارا بإجابة هذه الرغبة وطرد اليهود نساء ورجالا من المدينة .

ولم يقف طرد يهود وإجلاءهم عند هذا الحد ، بل أخذت المدن الأخرى إلى التسابق للتخلص منهم . وحدث عام 1509م أن شخصا يدعى يوحنا كورون (كان في الأصل جزارا يهوديا ثم ترك اليهودية إلى المسيحية) تقدم إلى القيصر ماكميلان ورجاه مصادرة جميع الكتب اليهودية وإتلاف تلك التي جاءت فيها إساءة للمسيحية . وحاول يوحنا هذا كسب العالم الإنساني رويشلين إلى صفه ، إلا أن رويشلين رفض التعاون رغبة في الإبقاء على الكتب اليهودية فسبب موقفه هذا خصومة حادة مع جماعة الدومينيكان في كولونيا (وكانوا متعاونين مع يوحنا) فأخذوا يكيدون للعالم رويشلين ، ويقاومون الرغبة التي دعت إلى تعليم اللغة العبرية ، وتوجه رويشلين إلى دراسة المؤلفات العبرية من الناحية اللغوية . وقد إنتصر يهود في هذه المعركة العلمية الأدبية حتى أن البابا ليو العاشر سمح للطباع المسيحي دانيال روتنبرغ بطبع الطبعة الأولى للتلمود ، إلا أن رويشلين ، بالرغم من هذا التوفيق ، كان قد أصبح في موقف حرج جدا بسبب كيد الدومينيكان ودسائسهم مما إضطر إلى طلب المساعدة ووساطة اليهودي يونس فودة الطبيب الخاص للبابا بالتدخل في سبيل فض هذه الخصومة . ولم يقف رويشلين وحيدا في هذه الخصومة بل سانده المصلح البروتستانتي مارتن لوثر (1483-1546م) ، وخاصة من الناحية اللاهوتية ، فاليهودي في رأي لوثر يجب أن يعتنق المسيحية لأنه أخ للمسيح وأن المسيح يهودي . إلا أن أمل لوثر في تنصير اليهود تلاشى ، فخاصم اليهودية لموقفها من التعاليم المسيحية اللاهوتية . وقد أثر موقف لوثر هذا من اليهود على وضع اليهود في أوروبا وإشعال روح العداوة ضدهم حتى عصرنا الحالي ، إذ كان رأي لوثر هذا من العوامل الهامة التي إمتزجت بنظرية التفرقة الجنسية النازية ، فأصبح اليهود إبان الحكم النازي (1933-1945م) هدفا لمختلف أنواع التعذيب والقتل نتيجة لتآمرهم على ألمانيا ومحاولة تخريبها .

- إنجلترا تضطهد يهود :

وحظ يهود في بلاد الإنجليز البروتستانتينية لم يكن أحسن حالا منه في البلاد الكاثوليكية ، وخاصة في القرن السادس عشر ، ففي سكسونيا وقع أول إضطهاد بروتستانتي على يهود وكان ذلك عام 1536م ، حيث طرد أمير الإقليم يوحنا فردريك يهود من إقليمـه . وفي عام 1539م سمح لهم بعبـور سكسونيا فقط ثم ألـغي هذا الإذن عام 1543م ، وقد استنـد الأمـير في قرارته هذه على تعالـيم مارتـن لوثر .

ولقد كان يهود يعملون ضد المسيحية في أوروبا ، وكانوا يرجعون كل تصرف لهم وكل سلوك غير طبيعي تصطدم به مصالح المجتمع الذي يعيشون فيه إلى خصائص الجنس اليهودي وتعاليم الدين اليهودي وإرادة الإله لهم بأن يكونوا سادة على (الأممين) ولا سيادة لأحد عليهم . ومن هنا كان لا بد للفكر المسيحي الأوروبي من أن يقوم بعملية مجابهة سريعة أمام خطر سيطرة يهود ، وبدأ كثير من المفكرين الأوروبيين الذين إستطاعوا أن يروا مدى ما يتعرض له المسيحيون في أوروبا ، وكذلك المعتقد المسيحي بآدابه وتعاليمه ، من خطر السيطرة اليهودية والمسخ التعصبي فقاموا يكشفون عن الظروف والميادين التي عملت على إتاحة الفرص لكي يعبر اليهودي عن مطامعه ونزعاته وتعلقه بأساليب المضايقة وتقديم الربا الفاحش ثم سيطرته على حركة التطور الصناعي ، وإدارة الأعمال ، وكانت الصفوة من مفكري أوروبا ومؤرخيهم التي هبت تحاصر الخطر اليهودي هي تلك المجموعة من المفكرين التي قامت من فرنسا وألمانيا ثم استطاعت أن تؤثر بفكرها المستنير في كشف النقاب عن الخطر اليهودي أمام باقي شعوب أوروبا .

- فرنسا تضطهد يهود :
وفي بعض مراحل القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، أدى المفكرون الأوروبيون دورا نضاليا ضد السيطرة اليهودية على كل جوانب الحياة الأوروبية . ففي سنة 1845م ألف توسينال كتابا عنوانه (اليهود ملوك العصر ، تاريخ الإقطاع المالي) . وقد بين هذا الكتاب ما ظهر من فضائح مالية وإستغلال أناني للمالية الفرنسية في ذلك الوقت ، وما كان ليهود في ذلك من دور كبير ، وكيف أن يهود يقابلون بالإزدراء قوانين العدل وحقوق العاملين وذلك بما أخذ به يهود من أفكار التلمـود من جـواز إستغـلال غـير اليهـود . ونشر الكاتب الفرنسـي الكونـت غوبينو ( Gobineau ) في سنة 1854م بحثـا عنـوانه ( المسـاواة بين الأجناس البشرية ) ( Essai Sur linegalite des races humaines ) بين فيـه الفـرق بين الجنسـين الآري والسامي ، وقصد به أن يهاجم نشاط يهود السياسي . كما هاجم توسينال نشاطهم الاقتصادي المدمر . ثم جاء كـاتب ثالث فرنسـي فكتب سنة 1869م كتــابا عنـوانه ( اليهود واليهودية وتهديد الشعوب المسيحية ) . وصاحب هذا الكتـاب هو ( جينيوده موسو ) ، رجل من رجال الدين ، وقد حاول أن يبين خطر اليهود في ميدان الدين والثقافة . وقد أكد في كتابه أن اليهود لا يقيمون وزنا لأحد ، ولا يؤمنون بصحة ما يلتزمون به نحو غير اليهود من قسم أو يمين ، كما أن مصدر خطرهم يكمن في محاولتهم القضاء على الروحية في العالم المتدين وتفضيلهم المادة على الروح . وقد دفع هذا النشاط الأوروبيين إلى أن يبحثوا عن المؤلفات التي تساعدهم على فهم اليهود ، فأخذوا يقرأون كتابات العالم الألماني (أيزمجز) التي كتبها في القرن الثامن عشر عن تعاليم التلمود المعادية للبشر ، كما أخذوا يقرأون كتابات اليهود الذين تنصروا ، وفيها يكشفون النزعات الهدامة لبعض التعاليم اليهودية خاصة كتابات الأب ( جوزيف ليمان ) .

إذن إشتركت دول أوروبا جميعها في التعرض للخطر اليهودي الهدام . وفي مجتمع القرن التاسع عشر نرى أن رد الفعل يكاد يكون متشابها ، بل إنه أخذ يتبلور حتى رأيناه ينفجر في حركات شعبية ضد اليهود في ألمانيا وفرنسا والنمسا والمجر وبولندا ورومانيا وروسيا في أواخر القرن الماضي .

ففي ألمانيا نشر ( فيلهلم مار ) ( Marr ) وهو صحفي هامبورغ ، سنة 1873 رسالة صغيرة عنوانهــا ( انتصــار اليهودية على الجرمانيــة ) ، وقد لاحظ ( مار ) أن هذا الإنتصار إقتصادي في مظاهره ، إلا أنه وجد أن إختلاف يهود في الجنس هو الذي دفعهم إلى هذا الإنتصار بوسائل مالية ضالة منحرفة ، ورأى أن هذا السلوك يستتبع محاربة يهود وسلوكهم التخريبي . ولا شك في أن ( مار ) قد إعتمد في نظريته العنصرية على نظرية جرينو الفيلسوف السياسي الفرنسي . وقد هيأت الظروف سلسلة من الفضائح المالية في ألمانيا إشترك فيها يهود لجأوا لإستعمال هذا العداء العنصري ، حتى لقد أخذ به (بسمارك) في برنامجه السياسي سنة 1879م خاصة وأنه وجد خصومة عنيفة لسياسته الجمركية من حزب الأحرار الذي كان يتزعمه اليهوديان ( لاسكر وبامبرغر ) .

وسار بعد ذلك في ألمانيا العداء بين المسيحيين واليهود في عالم الفكر والسياسة جنبا إلى جنب . ففيلسوف ألمانيا السياسي ( تريتشكه ) ( Treitchke ) اخترع نظرية التعارض بين الآرية واليهودية ، ونشرها من كراسته في جامعة برلين ، وأوجد الجملة التي ذهبت مثــلا بين الألمــان :" أن اليهــود بلاؤنــا " ، كما سـاهــم الفيـلسوف ( نيتشـه ) في حركة تحتقـار اليهود في ألمانيـا . ولكن المرجع الكلاسيـكي عن نبـذ اليهـود كجـنس يتمثـل في كتـاب " أسس القـرن التـاسـع عشـر " ( Foundations of th 19th Century ) الذي كتبه عالم ألماني من مولد إنجليزي هو ( هوستون ستيوارت تشامبرلن ) سنـة 1898م . وقد حــل هذا الكتــاب مرجعــا إلى أن أخذ مكانــه كتــاب ( كفاحي ) الذي ألفه " هتلر " دستورا للحركة النازية .

ولم تكن هذه المؤلفات الفكرية عن السياسة الأوروبية لمناهضة يهود وأثرهم المفسد في الحضارة الصناعية البرجوازية ، أثناء القرن التاسع عشر إلا ينابيع لحركة المقاومة ضد اليهود في أوروبا سواء كانت حزبية أم شعبية ، فقد أصبحت مراجع لتبرير التكتل الأوروبي ضد الخطر اليهودي . وتنقلت الأفكار الأساسية عن ذلك الخطر على الجنس والسياسة والإقتصاد والدين بين دول أوروبا على مختلف أنظمتها الاجتماعية .

وقد إلتـقى فكر الإنجيـل الذي يحمــل يهـود ( اللعنـــة ) إلى يوم القيامــة بوصفهم ( قتلة المسيح ) ، حسب زعمهم ، مع التجربة العادية التي كان يحسها المواطن العادي في علاقته اليومية مع اليهود ، ولذلك ترجمت هذه الأفكار العدائية إلى منظمات سياسية ، ففي ألمانيـــا تكونت عصبة محاربة الساميــة تحت زعامة القسيس اللوثــري ( أدولف شتوكر ) الذي أسس إتحاد العمال الإشتراكي المسيحي ، وقد زاد حركة بغض يهود لهيبا وانتشارا بين جماهير الشعب أن ظهر زعيم شعبي في شخص ( هيرمان الفرت ) الذي إستطاع في سنة 1891م أن يرفع قضية قتل بعض يهود من أجل طقوسهم الدينية . وقد أدت القضية إلى زيادة النقمة والبغض على يهود .

ولم تتخلف فرنسا عن ركب المحاربين لنفوذ يهود الذي إمتد إلى جميع الميادين من سياسية وإقتصادية وإجتماعية . فحين تألمت برلين من سلوك يهود تألمت براغ وفيينا وكذلك باريس من سلوكهم ، وإن كان الفرنسيون قد وضعوا أصبع أوروبا على الداء الجديد بما أفهمهم كتابهم عن خطر يهود . فكان ( إدوراد ريمون ) الصحفي الباريسي البارع الأسلوب زعيم الكتاب الفرنسيين في هذا المجال أثناء العشرين عاما الأخيرة من القرن التاسع عشر إذ ألف كتاب ( فرنسا اليهودية ) الذي تدفقت من عشرات الآلاف نسخه كل شهر من مطابع باريس ، وتلقفته الأذهان تلقفا نادر المثال ، كما أنه أسس صحيفة ( القول الحر ) في سنة 1892م فأستطاع بكتابه وصحيفته أن يقدم غذاء حيا مثيرا لحملة سياسية قوية ضد يهود ، عدو أوروبا المشترك .

- النمسا والمجر تضطهدان يهود :

تعاون الكفر والسياسة في محاربة اليهود في ألمانيا ، وفي الإمبراطورية النمساوية المجرية ، ففي المجر كان للقسيس الكاثوليكي (روتبخ) أعمق الأثر في إزاحة الستار عما تشتمل عليه تعاليم يهود القديمة خاصة ما جاء فيها بالتلمود من دعوة إلى تدمير غير اليهود ، وقد ضمن هذه الأفكار كتابه (يهود التلمود) الذي نشره عام 1871م .

وما أن عين أستاذا للديانة الكاثوليكية في جامعة براغ حتى إنتشر ذكره وعمق أثره ، وتجاوبت تعاليمه مع الحركة السياسية المعادية ليهود في براغ . ولم يكن القسم النمساوي من الإمبراطورية بأهدأ حالا من الناحية السياسية ، إذ تيقظ الوطنيون في فيينا لما يمثله يهود في حياة الإمبراطورية من عوامل الفساد والإستغلال ، فوضعوا أسس الحركة المعادية ليهود وكان من أبرز قوادها الدكتور ( لوجز ) الذي بارك البابا حزبه سنة 1895 ، والذي أنتخب محاظا لمدينة فينا في العام نفسه ، ولكن الإمبراطور قاوم إنتخابه بأن رفض تعيينه في منصبه ولم يوافق على ذلك إلا بعد أن أعيد إنتخابه أربع مرات . وإصرار أهل فينا على إنتخاب الدكتور ( لوجز ) رغم معارضة الإمبراطور دليل القوة التي بلغها بين الشعب والزعماء الذين إستهدفوا محاربة يهود .

وجاءت الفضائح السياسية والمالية التي إشترك فيها ثلاثة من مشاهير اليهود المضاربين تؤكد بالفعل على ما ينادي به أمثال هؤلاء الزعماء ، وجاءت قضية الضابط اليهودي ( درايفوس ) الذي أتهم بأنه تآمر مع الألمان ونقل أسرارا حربية فرنسية إلى قيادتهم ، وقد أخذت هذه القضية دورا كبيرا في فرنسا ، وإزداد حقد النصارى على يهود .

- أوروبا الشرقية تضطهد يهود :

ولما كانت أوروبا تسيطر عليها النصرانية ، التي تلعن يهود ، في دولها الغربية والشرقية ، فقد وجدت صورة مشابهة لعداء اليهود في الغرب في دول أوروبا الشرقية . ففي رومانيا كان يهود يعملون كوسطاء ووكلاء للنبلاء الأستقراطيين . وقد زاد من أهميتهم أن الطبقة الوسطى كانت شبه معدومة ، وكان الفلاحون في حالة من البساطة والسذاجة مكنت من إستغلالهم بواسطة يهود ، فكرههم شعب رومانيا كرها عميقا ، لأنه رأى فيهم أصحاب السيطرة الحقيقية على مصائره المعيشية ، خاصة أنهم أضافوا إلى مقدرتهم على إستغلالهم ، باسم النبلاء إستغلالهم عن طريق المتاجر وإقراض المال بالربا الفاحش . ولقد زاد السخط بين شعب رومانيا مع الزمن على يهود وأنتهى سخطهم بثورة ضدهم .

وإن كان تاريخ يهـود في رومانيا قد حفـل بالحوادث أثناء القرن التاسع عشر ، إلا أن تاريخهم في روسيا القيصرية قد تجاوب في أحداثه وبعد أثره على نطاق إمتد في الزمان والمكان إمتدادا إتفق ومكانة روسيا وظروفها . ومن ثم كان من الطبيعي أن يكون تفاعل يهود مع الروس في جسامته وحدته متلائما مع ضخامة أعدادهم وخسائس أفعالهم ، وحاولت روسيا أن تحدد إقامتهم بأن تخصص لهم أقاليم لا يبرحونها إلى سواها دون إذن من السلطات العامة ، وقد إحتوت تلك الأقاليم على أكثر من نصف يهود في العالم . وقد استغل يهود روسيا بالإضافة إلى الربا وإقراض المال صناعة الخمور وبيعها ، بل إن تجارة الخمور أصبحت حكرا عليهم . ولذلك عاش الأهالي في دين مستمر لأصحاب الحانات اليهود . فأضيف إلى الحقد الذي نتج عن سوء سلوك يهود وإستغلالهم للشعب الروسي إلى ما تعلموه من المسيحية التي تدعوهم إلى كره يهود ولعنهم ، لأنهم صلبوا المسيح حسب زعمهم ، وكان الكره الروسي متجاوبا مع نشاط يهود العنيف في استغلالهم . ولقد أشيع عند إغتيال الإسكندر الثاني سنة 1881م أن ليهود يدا في ذلك . ولذلك قام الفلاحون وأهل المدن بهجوم كان القصد منه تدمير يهود للأخذ بالثأر لمليكهم المصلح في ربيع سنة 1881م . وتكرر الإعتداء في صيف العام نفسه ، وفي ربيع العام الذي تلاه .

وقد أصدرت الحكومة بعض القوانين المؤقتة لتنظيم إقامة يهود لقاء استفزازهم للشعب وهجوم الشعب عليهم من حين لآخر استجابة لعقيدتهم المسيحية ، واستجابة لسوء سلوك يهود الذين كتب الله عليهم المسكنة والذل فألهمهم الخطأ في السلوك لتضربهم الشعوب . وقضت هذه القوانين بعد إقامة مستوطنات جديدة أو شراء أملاك أو سلع خارج المدن ، كما أنها لم تسمح لهم بالعمل في أيام الآحاد والأعياد المسيحية .

ولقد إزداد يهود سخطا بهذه القوانين التي أطلق عليها ( قوانين مايو ) ، وأصابهم الذعر من المذابح المتكررة التي تلاحقت بهم حتى بلغت أقصاها في حوادث سنة 1905م . وقابلوا ذلك بالهجرة إلى أوروبا وأمريكا وبالحركات السرية في روسيا .

وقد حاول الغرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليســار أن يسد بابه دون يهـود ، وأن يفتح أمامهم باب الشرق العربي . وما أن تفجرت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م حتى كان الغرب قد وصل إلى سياسة إغلاق الباب نهائيا في وجه المهاجرين من يهود ، لأن هؤلاء المهاجرين من روسيا إلى هذه البلاد الغربية لم ينسوا أن يصحبوا معهم ثقافتهم وطرق حياتهم الخاصة ، مما أثار شكوى الدول الأوروبية وإعلانها لرأيها عن تجربتها المؤلمة معهم . فهم لم يتخلوا عن نظريتهم المعادية للمجتمع المحيط بهم ، ولم يتخلوا عما تنطوي عليه نفوسهم من قسوة وضغائن . وظهر ذلك بطريقة عملية في مزاولتهم لأعمالهم العادية أثناء السلم ، وفي محاولة الهرب من الخدمة العسكرية عقب إندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 ، ولم يراعوا المنافسة الحرة الكريمة في العمل ، فحاول العمال اليهود أن يعملوا بأجور منخفضة إنخفاضا يضر بمصالح العمال غير اليهود في بلدان أوروبا الغربية ، كما حاول المشتغلون منهم بالتجارة أن ينافسوا غيرهم من التجار بعرض سلع رخيصة والإكتفاء في أغلب الأوقات بنصف الأرباح المعتادة معتمدين في ذلك على ما تعودوه في مواطنهم الأصلية من إنحراف في التعامل والإلتواء في الوصول إلى مآربهم المادية .

وقد جاءت الحرب العالمية الأولى فكشفت عن هذا الإنحراف والإلتواء ، لأن أوقات الأزمات أقدر على إظهار جوهر الخلق والسلوك الإجتماعي من أوقات الهدوء العادي . وتجاوبت الشكوى في أوروبا وأمريكا من محاولات يهود الطارئين المعقدة في إخفاء أنفسهم وأشخاصهم عن نظر إدارات التجنيد الإجباري بالرغم من حصولهم على الجنسية في الدول التي إستوطنوها بعد الهجرة ، وكانوا يشوهون أعضاءهم الجسدية حتى يتهربوا من الجندية وحتى بعد التجنيد ، مما جعل الحلفاء الغربيين يرون في اليهود مثالا في عدم الولاء وإنكار الجميل ، مما أدى إلى تعاظم الحقد عليهم .

الولاء بين يهود والنصارى

من هذا السرد التاريخي للعداء اليهودي النصراني يتضح بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يحدث ولاء بين يهود والنصارى عبر التاريخ ، وإنما حدث العكس من ذلك ، العداوة والبغضاء ويشير القرآن الكريم إلى ذلك ويقرر أن العداوة قائمة بين يهود والنصارى . ففي سورة الصف ، يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) [الصف : 14] ، والذين آمنوا هم الذين أصبحوا (نصارى) ، والذي كفروا هم الذين استمروا على يهوديتهم .

وتقرر الآية أنهم منذ ذلك الحين أصبحوا أعداء ، وأن الله سبحانه وتعالى قد أيد النصـارى على يهـود فأصبحوا ظاهرين عليهم مسلطـين . وكـذلك يقـول تعـالى ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) [ البقرة : 113 ] .

ولكننا نجد أن الآية [ 50 ] وما بعدها من سورة المائدة تقرر أن هناك ولاء بين يهود والنصارى ، وتحذرنا من أن نتخذ يهود والنصارى أولياء ، فكيف يمكن التوفيق بين الذي جاءت به آيات القرآن والتي تقرر العداوة بين يهود والنصارى ، وكذلك الواقع التاريخي الذي بين هذه العداوة المستمرة بين يهود والنصارى ، وبين الـولاء الذي تتحـدث عنـه الآيات [ 50 ] وما بعدها من سورة المائدة والتي يقول الله فيها ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهولاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنــوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقــوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافـون لومـة لائم ذلك فضل الله يؤتيــه من يشاء والله واسع علـيم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنـوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعــون * ومن يتـول الله ورسوله والذين آمنــوا فإن حزب الله هم الغالبـون) [المائدة : 51-56] .

فالقرآن يتحدث في هذه الآيات عن ولاء وتناصر بين يهود والنصارى . والآيـة [ 113 ] التي أشرنا إليهـا من سورة البقرة ، والآية [ 14 ] من سورة الصف ، تحدثنا عن خلاف وعداء بين يهود والنصارى ، والواقع التاريخي الذي سردنا قسما منه يؤكد هذه العداوة والبغضاء بين يهود والنصارى . وهذا في ظاهره تناقض ، ومعاذ الله أن يتناقض كتاب الله ، إذن لا بد أن آيات المائدة التي نحن بصدد تفسيرها ، تتحدث عن فترة زمنية آتية بعد نزول الآيات .

فهي لا تصف واقعا في حال نزولها ، إذ لم يكن في حين نزولها ولاء بين يهود والنصارى في جزيرة العرب ، أو في أي بقعة من بقاع العالم ، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) حين نقض يهود العهد في المدينة قاتلهم منفردين في المدينة وفي خيبر وتيماء ، ولم يحدث لهم مساعدة وتناصر وموالاة من النصارى ، إذ لم يكن في المدينة وما حولها نصارى ، وكذلك لم يكن في مكة يهود ولا نصارى .

ولما اقتضى أن تحمل الدعوة إلى خارج الجزيرة ، خرج جيش المسلمين فقاتل النصارى في ديار الشام لأول مرة في معركة مؤتة ولم يشترك يهود في المعركة . إذن هذه الآيات هي من آيات الغيب التي تتحدث عن فترة زمنية قادمة يتعاون فيها اليهود والنصارى ، ويوالي بعضهم بعضا للتآمر على المسلمين . وهذه الآيات التي أخـبرت عن مستقبل آت هي من قبيل قوله تعـالى في (سـورة الروم) بسم الله الرحمن الرحيم (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم :1-6] . وهي من قبيل قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركـون بي شيئـا ومن كفر بعد ذلك فأؤلئـك هم الفاسقون) [النور : 55] .

وبالفعـل انتصرت الروم بعد فترة وجيزة على الفرس كما وعد الله في كتابه ، وبالفعل حقق الله وعده للمؤمنين فأصبحوا خلفاء الأرض يعمرونها ، وأصبح دينهم هو الدين المسيطر ، وأصبحوا يعيشون في آمن وطمأنينة في بلادهم وفي كل بلد دخلها الإسلام . وإلى غير ذلك من الآيات المستقبلية الكثيرة في القرآن .

القرآن يتحدث عن المستقبل

ولما كان القرآن هو كتاب الله الخالد إلى يوم القيامة ، ويتحدث عن مسيرة البشرية إلى أن تلقى ربها ، فمن البديهي أن يشير إلى الأحداث الكبرى في صراع المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى ، وكم من الآيات التي نقرأها اليوم فنقف أمامها خاشعين لأنها ترسم صورة المجتمع الذي نعيشه ، كقوله تعالى ( قل هو القـادر على أن يبعـث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) [ الأنعام : 65 ]. أليست هذه الآية واحدة من الآيات التي ترسم صورة ما عانته الأمة وما تعانيه من فئات متباينة وأحزاب متلاعنة وحروب محلية وإستعمال للطائرات والقنابل والألغام والمدافع بين الفئات المتحاربة من الأمة الواحدة . هذه الأسلحة الحديثة (من فوقكم أو من تحت أرجلكم) لم تكن معروفة وقت نزول هذه الآية ، وهذا يدل على أن هذا القرآن هو معجزة الله الخالدة ينبه الأمة لأن تسير طريقها السوي وتمشي صراطها المستقيم ، وإلا حل بها عذاب في دنياهم مصداقا لقوله تعالى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) [السجدة : 21] . وحينما نقرأ آية أخرى من هذه الآيات التي تتحدث عن فترات زمنية قادمة بعد نزولها تمرض فيها الأمة مرضا ماديا ، فتنصرف إلى التمتع بالملذات والجري وراء الشهوات والإنغمـاس في الرذائل ، وذلك نتيجة إنصرافها عن عبـادة الله وعن الجهـاد والذكـر ، وكيف أن ذلك سيؤدي بها إلى الهلاك والدمار ، لأن الترف دائما يمزق الأمم ويهـدم الحضــارات ، لأنه يفقد الأمة صلابتها ويقتل روح التحـدي فيها فتستريح من تعب الجهــاد وتنـام مسترخيــة فيـدب في جسـدها التفسخ ، وذلك حينمــا تعرض عن الجهاد وعبــادة الله التي خلقـت من أجله . يقول تعالى (فلمــا نسوا ما ذكروا به فتحنــا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحـوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم ملبسون * فقطع دابــر القــوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام : 44-45] .

أرأيت الصورة الإعجازية الربانية كيف ترسم الواقع الذي تعيشه البشرية الآن التي أعرضت عن الله ، فلم تتوقف بينها الحروب المدمرة . ففي هذا القرن وقعت حربان عالميتان أصابت شرورهما الإنسانية جمعاء . وفي هذا القرن إندلعت كثير من الحروب المحلية المحدودة التي دمرت البلدان التي إشتركت فيها . وفي هذا القرن حيث أعرضت الإنسانية عن ربها نهائيا ، كثرت الزلازل والفيضانات وحوادث الصقيع والجليد التي يعطي الله بها الإنذارات للبشرية علها تعقل . ألم تر إلى نيويورك وهي أكبر عاصمة مادية في الكرة الأرضية ، كيف نهبت في ليلة واحدة حينما سادها الظلام نتيجة لإنقطاع التيار الكهربائي قبل بضع سنين .

والقوتان العظميان تحشدان الأسلحة النووية الفتاكة ، والأسلحة الجرثومية ، وتتفننان في إختراع ما يؤدي إلى هلاك البشرية ، وهما في نفس الوقت يدعوان إلى الإلحاد وينشران الفساد ، فأعرضت البشرية تحت توجيههما عن ذكر الله . فهل يحدث خطأ مقصود أو غير مقصود فتخرج هذه الأسلحة المخزونة من عقالها لتدمر البشرية ؟؟ .

ونحن في العالم الإسلامي بدأنا نلحق بالبشرية الضالة ، نلهث وراء الموضة ونقلد بوعي وبدون وعي ، نأكل ما يأكل الكفار ، ونلبس ما يلبسون ، ونشرب ما يشربون من حلال أو حرام ، وأخذنا ننصرف عن الوحي ، عن القرآن والسنة ، وفي هذه الحقبة الزمنية فتح الله على البشرية أبواب كل شيء بحيث أصبحت حياة سهلة ميسورة لا مشقة فيها ولا عنت . الطعام يأكله الإنسان شبه مهضوم ، واللباس يشتريه مخيطا ، وكل يوم لباس جديد وموضة جديدة . وجاءت السيارات وتبعتها الطائرات وتطورت وسائل المواصلات حتى صغرت الكرة الأرضية ، وأصبحت في متنـاول الإنسان يرتادها في يومين أو ثلاثة أو في يوم أو في بضع يوم . وجاءت الكهرباء ومشتقاتها : آلة تطبخ وأخرى تغسل ، وثالثة تنظف ، ورابعة تكوي ، وخامسة وسادسة إلى ما لا يعد ولا يحصى . وتفنن الناس في بناء القصور وزخرفتها ، وأصبح الديكور في البيوت يكلف أكثر من البيت نفسه ، ورأينا في عواصمنا نحن المسلمين بيوتا تبنى يسكن فيها زوجان يكفي ثمن الواحد منها لإطعام قرية جائعة . وأصبح التفاخر بالأثاث الفاخر والديكور وبرك السباحة مجالا للفرح والتيه . فهل رأيت كيف تصف هذه الآية الأمة من القرآن الكريم الواقع الذي نحياه الآن . وأن هذا الترف اللامعقول واللامقبول سيؤدي إلى تدمير الحضارة الغربية بوجهيها ( الإشتراكي ) والرأسمالي ، وها هو الوجه الشيوعي للحضارة الغربية قد إنتهى ، والوجه الرأسمالي للحضارة الغربية في طريقه إلى الزوال . وإننا نحن في المنطقة الإسلامية ونحن في معركة مع عدونا ، وهي معركة بقاء أو فناء ، كيف نستسيغ لأنفسنا العيش في هذا الترف القاتل وبناء هذه القصور . وإن بعض الأحياء السكنية في بعض العواصم العربية فيها من القصور والديكور والتفنن المعماري ما لا يكاد يوصف ، مع أنها في كل لحظة تحت رحمة صواريخ العدو وطائراته بل ومدفعيته . والله يهددنا إن لم نتعظ فإنه سوف يأخذ هذا الترف كله ويفنيه ، ونعيش بعدها مبلسين في يأس وقنوط .

ولقد حقق الله المثل الذي ضربه في القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان . وتتمثل هذه الصورة اليوم في بيروت التي كانت مثالا للحياة المتفسخة ، لا تنام الليل ، وتلهث في النهار ، إنهارت فيها القيم وإختلط الحابل بالنابل ، والنجاسة بالطهر ، والكفر بالإيمان ، والعهر بالإستقامة ، الرجولة بالميوعة ، حتى لم تعد تميز بين خير وشر وحلال وحرام ، ولا تعرف المسلم من غير المسلم ، يلهث وراء اللذة ، ويشبع جوع المعدة وجوع الجنس بأي وسيلة ، وكيفما أتفق .

وفجأة إذ ببيروت تعيش الخوف والجوع ، ويهلكها العهر ويمحقها الربا ، فكل تجارة بيروت وعماراتها وأسواقها قائمة على الربا ، ولكن القرآن قرر أن الربا مآله المحق ، فأجتمع في بيروت الترف والكفر والربا ، وكلها عوامل الدمار لأي مدينة في الأرض .. وقد حدث ذلك في الخليج وفي ( الكويت ) خاصة . ولنتدبر الآيات المعجزات :

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) [الإسراء : 16] . قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات واللــه لا يحب كل كفار أثيم ) [البقرة : 276] . قال تعالى (وضــرب الله مثـلا قريـة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لبـاس الجـوع والخـوف بما كانــوا يصنعــون) [البقرة : 112] .

ولسائل أن يسأل : هل بيروت وحدها التي أسرفت وكفرت ورابت ؟ والجواب هو : أن عواصم الغرب الكبرى دمرت في خلال هذا القرن مرتين ، مرة في الحرب العالمية الأولى ، والأخرى في الحرب العالمية الثانية ، ولا ندري هل سيبقى منها أثر في الحرب العالمية المقبلة أم لا ؟! وبهذا يتبين أن آيات القرآن المتعلقة بمسيرة البشرية لا يصح أن تفسر تفسيرا تاريخيا فقط ، كآيات الإسراء المتعلقة ببني إسرائيل وبعلوهم وفسادهم ، وقد بينت في تفسيرها أن المرتين بعد نزول القرأن وليس قبله .

وبهذا السرد للآيات القرآنية التي تتحدث عن المستقبل ، أردت أن أوضح أن معنى آيات المائدة في الموالاة بين يهود والنصارى هو مستقبلي ، تتحدث عن المستقبل في علاقات المسلمين مع يهود والنصارى . وأن تآمر يهود والنصارى مجتمعين على المسلمين وأرض الإسلام والأرض المباركة هو بعض ما جاء به القرآن الكريم .

تحقق الموالاة بين يهود والنصارى
في بداية القرن العشرين

ونعود إلى الآية وتفسيرها ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) [ المائدة : 51 ] . وقد بينا آنفا أنه لم تحدث موالاة بين يهـود والنصـارى منذ أن جاء عيسى عليه السلام بالنصرانية إلى بداية القرن العشرين ، وأن العداء بينهم هو دين الطرفين ، ولكن فجأة تحدث المــوالاة والتناصر بينهم ، وينسون الأحقــاد التي كانت العلامــة المميزة للعلاقات بينهم . فقد تعـاونوا في أول القرن على عزل السلطان المظلوم عبد الحميد ، حين رفض أن يعطي يهود إمتيازات في فلسطين ، وكان يهود في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقدوه في مدينة ( بال ) بسويسرا سنة 1897م قد اتخذوا قرارا بالإستيطان في فلسطين التي كانت جزءا من الدولة الإسلامية العثمانية ، وذهبت رسلهم إلى مقابلـة السلطان في إسطنبول ، ومن الذين ذهبوا لمقابلة السلطان : اليهودي ( قارصو أفندي ) ، ورئيس المؤتمر الصهيوني ( ثيودور هرتزل ) . وقد عرض هؤلاء على السلطان في بادىء الأمر أن يسدد يهود ديون الدولة العثمانية ، وأن يخصوا السلطان بخمسة ملايين ليرة عثمانية ذهبا . ولكن السلطان الذي كان على وعي تام بمخططات الكفار ضد بلاد المسلمين وكان يحذر الواعين من الأمة من هذا التآمر رفض العرض .

وظن يهود أن الأمر يتعلق بقلة المبالغ التي عرضوها فأخذوا يرفعون الرشوة حتى بلغت الآتي :

تسديد ديون الدولة العثمانية ، وتعمير الأسطول العثماني ، ومبلغ مائة وخمسين مليون ليرة ذهبا للسلطان شخصيا . ولكن السلطان المسلم أخبرهم بأن حفنة من تراب الأرض المقدسة تساوي أموال يهود التي في الدنيا . فقرر يهود أن يتخلصوا منه ، فتعاونت المحافل الماسونية مع الحركة القومية الطورانية ويهود الدونمة ( الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ) مع النصارى ، وتم عزل السلطان سنة 1909م ، ونفي إلى سالونيك في اليونان وأهين وعذب وشوهت سمعته ، ولقد وصل الأمر بهم أن جعلوا السلطان عبد الحميد رمزا للتأخر وللحاكم الجائر . . ولكن كل ذلك إلى حين ، حيث بدأت تنكشف الحقائق وأنه كان - رحمه الله - من أخلص حكام المسلمين .

وكان يهود قد تعاونوا مع الإنجليز في أثناء الحرب ، وكان ( وايزمان ) اليهـودي عالما كيمــاويا ، فأستغل مخـترعاته في أثنــاء الحرب ، وكذلـك البيوتات الماليـة اليهـودية ، مثل روتشيلد ، إستغلت حاجة بريطانيــا لمخترعاته وأموالهم . وكانت بريطانيــا لا تزال العدو الأول للمسلمين ، فأعطت يهـود ( وعد بلفور ) في 2 / نوفمبر / 1917م ، وكان ذلك أثناء الحرب بإتفاق مع أمريكا ، وينص الوعد على إنشاء وطن قومي ليهود في فلسطين ، وكان هذا أول تعاون بارز بين بريطانيا النصرانية ويهود .

وبعد الحرب العالمية الأولى أنشئت عصبة الأمم المتحدة ، وفي سنة 1922م أعطت حق الإنتداب لبريطانيا النصرانية على فلسطين لتضع البلاد إقتصاديا وثقافيا وعمرانيا وسياسيا في وضع يتحقق منه إنشاء الوطن القومي اليهودي . وبالفعل قامت بريطانيا النصرانية بهذا الأمر شر قيام . فعينت أول مندوب سام لها في فلسطين من يهود وهو ( هربرت صمويل ) .

استمر هربرت صمويل مندوبا ساميا في فلسطين لمدة ست سنوات ، وضع فلسطين خلالها في وضع يساعد على إنشاء الوطن القومي ليهود ، فسن قوانين إباحة الهجرة اليهودية ، وتغاضى عن الهجرة اليهودية ( غير الشرعية ) ، وفرض ضرائب باهظة على الأرض حتى يضطر الفلاح العربي المسلم إلى بيعها ، وأباح إستيراد القمح من استراليا وبيعه بأرخص من القمح الذي تنتجه أرض فلسطين ، وحتى لا تقوم الأرض بتكاليفها وتكاليف معيشة الفلاح . ومع هذا فإن هذه السياسة لم تنجح في أن يبيع أهل فلسطين أرضهم وبقوا متشبثين بها ، بالرغم مما يقوله أعوان اليهود وسماسرة الحكام من أمثال المدعو : أنيس منصور رئيس تحرير مجلة ( إكتوبر ) المصرية الذي قال بكل وقاحة :" إن اليهود اشتروا فلسطين شبرا شبرا " ، حتى يبرر لسيده أنور السادات المرتد ، مناداته ببقاء دولة اليهود في فلسطين . والواقع هو أن يهود كانوا يملكون من أرض فلسطين 2% سنة 1918م وحتى 1948م كان مجموع ما يملكه يهود من فلسطين 5.8% حسب إحصائية الأمم المتحدة . ولم يكن الـ 5.8% بيعا من أهل فلسطين ، وإنما كان من الأراضي التي تملكها الدولة وأعطتها بريطانيا النصرانية ليهود ، وبعض العائلات الإقطاعية التي كانت تمتلك قسما كبيرا من شمال فلسطين ، وكانت تقيم في لبنان ، ومنها عائلة سرسق ( نصارى ) وعائلة سلام ( مسلمة ) باعت أراضيها ليهود .

مقاومة الشعب الفلسطيني

وأخذ الشعب في فلسطين يقاوم سياسة التهويد ، ويتشبث بأرضه ، فقام بالثورات المتلاحقة فكانت ثورة سنة 1920م ، وثورة سنة 1929م حينما إدعى يهود ملكيتهم لحائط البراق وأنه من بقايا هيكل سليمان ، ثم ثورة سنة 1933م ، ثم الثورة الكبرى من عام 1936م إلى 1939م ، حيث قام الشعب كله يصارع بريطانيا ويهود ويضرب المثل للدنيا في التضحية والفداء ، وقدم آلاف الشهداء وتعرض للتعذيب في السجون والمعتقلات ، وعاش الناس في إرهاب ولكن روح التحدي فيهم كانت عالية لم تستطع بريطانيا إقتلاعها أو تدميرها بالرغم من بطشها . وفي هذه الأثناء أنشأت بريطانيا جيشا ليهود ، أخذت تدربه وتسلحه باسم حرس المستعمرات (الهاغاناه) . وكان هذا الحرس هو النواة الحقيقية لجيش دولة يهود فيما بعد . وكل رؤساء الأركان فيما يسمى بجيش الدفاع اليهودي منذ سنة 1948م هم من ضباط هذا الفريق اليهودي مثل ديان ، وآلون ، ويادين .. وغيرهم .

وهكذا عملت بريطانيا النصرانية على إعطاء يهود كل ما يريدون وأكثر مما يريدون ، وأسست لهم دولة في أرض الإسلام ، واستمر التعاون بين يهود والنصارى في هذا القرن ، فأصدرت هيئة الأمم المتحدة النصرانية وريثة عصبة الأمم والتي أسسها الحلفاء المنتصرين لتقسيم مناطق النفوذ فيما بينهم قرارا بإنشاء دولة يهود في فلسطين عام 1947م .

وتسابقت الدول النصرانية الكبرى على الإعتراف بهذه الدويلة ، فتفتخر أمريكا النصرانية وريثة بريطانيا النصرانية في عداء المسلمين بأنها أول من إعترف بهـذه الدولـة بعد إنشائهـا بإحدى عشر دقيقة ، وكانت روسيا الدولة الثانية ، ونالت ( الفخر ) بهذا الإعتراف السريع ، مع أن هذا الإعتراف يخالف مبدأها الشيوعي الذي تقوم عليه وهو ( الأممية ) ومحاربة ( العنصرية ) كما يزعمون . إلا أن العداء للإسلام جمع بين أطراف الكفر المتناقض الذي هو كقطعة العملة الواحدة ذات الوجهين .

وتوالت إعترافات الدول النصرانية بدولة يهود . وبعد ذلك أخذت الدول النصرانية تلهو بالمسلمين وبحكامهم ، فتصدر قرارات في هيئة الأمم المتحدة تبين حقـوق الفلسطينيين بأرضهم وتطالب بعودتهم وبتنفيذ قـرارات التقسيم . والحكام الذين والوا يهود والنصارى ، والذين هم من صناعة يهود والنصارى ، أعجبتهم اللعبة والعبث الذي يجري بهم وبأمتهم ، فكلما اجتمع حاكم إلى حاكم أصدرا بيانا يطالبان فيه بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين والتي أصبحت لا تعد ولا تحصى .

واستمر التعاون بين يهود والنصارى حتى كان العدوان الثلاثي على مصر المسلمة حيث اشتركت جيوش نصرانية (فرنسية وبريطانية) مع جيش يهودي في الهجوم على مصر سنة 1956م وهذا لأول مرة في التاريخ حيث اشتركت جيوش نصرانية ويهودية في حرب المسلمين .

وفي الستينات من هذا القرن بلغ التعاون ذروته بإعلان البابا تبرئة يهود من دم المسيح -حسب زعمهم- حتى لا يتأثر النصارى المتدينون حينما تسقط مقدساتهم في أيدي يهود الذين صلبوا المسيح - حسب زعمهم - وبلغ الأمر ذروته بتعاون الكثير من نصارى لبنان (خاصة الموارنة منهم) بكل وضوح وبكل وقاحة مع يهود حيث يقاتلون المسلمين في خندق واحد .

ومن العجيب الغريب أن دولة لبنان النصرانية بقيت فترة طويلة تقوم بدفع مرتبات جنود الخائن (سعد حداد) ومن بعده (أنطوان لحد) بالرغم من تعاونهم العلني مع يهود . وهذه الأموال من دافعي الضريبة المسلمين ، ومن مساعدات دول أوروبا -التي سكانها مسلمون- فكيف حدث هذا ؟! أو كيف يحدث هذا ؟! إنه الكفر وأعوانه يفعلون ما يريدون .

وأما ما قاله الطبري وغيره من المفسرين في قوله تعالى ( بعضهم أولياء بعض ) ، فإنه علل ذلك بأن يهود أنصار بعضهم البعض يد واحدة على عدوهم ، وأن النصارى كذلك . وهذا القول مردود بالقرآن وبالواقع التاريخي لأن القرآن يقرر أن النصارى مختلفون إلى يوم القيامة وبينهم العداوة والبغضاء ، فلا يمكن أن يكونوا يدا واحدة لأن الله تعالى يقول ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينئهم الله بما كانوا يصنعون ) [ المائدة : 14 ] .

ولذلك ، منذ أن أنقسم النصارى إلى طوائف ، والعداوة قائمة بينهم على أشدها ، فالكنيسة الشرقية ( الأرثوذكس ) التي مقرها إسطنبول ، لا تعترف بالكنيسة الغربية ( الكاثوليك أو اللاتين ) التي مقرها روما ، وبابا روما لا يعترف ببابا إسطنبول . وقد إنقسمت الكنيسة الغربية ، وأنفصلت عنها حركة التجديد الديني ( البروتستانتينية ) التي تزعمها ( مارتن لوثر ) ، والتي تتمثل في الكنيستين الإنجليزية وأكثر الألمانية وأكثر الأمريكان . فلا يعترف البروتستانت بالبابا ، ولا يعترف البابا بالبروتستانت ، فهو يعتبرهم خارجين عن الكنيسة ( هراطقة ) لأنهم لا يؤمنون بالتماثيل والصور ، وهم بالمقابل يعتبرونه ( مرتدا ) . والصراع الدموي بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية القائم على أساس ديني والذي لم يهدأ منذ سنوات طويلة يعطي صورة واضحة عن عداوة النصارى بعضهم مع بعض ، والحروب بين دول أوروبا النصرانية لم تتوقف عبر التاريخ ، فما من دولة أوروبية إلا وحاربت جارتها النصارنية ، وكثيرا ما كان العامل الديني المذهبي هو المحرك في هذه الحروب .

ويهود كذلك ليس بعضهم أولياء بعض بنص القرآن الكريم ، فكما أوقع الله العداوة بين النصارى بعضهم مع بعض ، أوقع العداوة بين يهود بعضهم مع بعض وإلى يوم القيامة . قال الله تعالى ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مسبوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيــانا وكفرا وألقينــا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة : 64] . ويقول الله تعالى (لا يقاتلونكم جميعــا إلا في قرى محصنة أو من وراء جــدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جيمعــا وقلوبهم شتى ذلك بأنهــم قــوم لا يعقلــون) [الحشر : 14] .

والمتتبع لأحوال يهود في الأرض المغتصبة يجد مدى إنطباق هذه الآية وصدقها على المجتمع اليهودي في فلسطين . فالأحزاب اليهودية حوالي ثلاثين حزبا من أقصى اليسار الشيوعي المتطرف الملحد إلى أقصى اليمين الصهيوني المتحجر . والأحزاب تتناحر بعنف . والمجتمع اليهودي مجتمع عنصري طبقي مخيف . فالحياة الرغيدة هي ليهود أوروبا ، وخصوصا الذين هم من أوروبا الشرقية مثل روسيا وبولندا. هؤلاء هم أصحاب السلطة في الدولة . فكل الزعماء الذين أقاموا دولة يهود وحكموها تقريبا منهم ، من أمثال : غولدا مائير ، وبن غوريون ، وشرتوك ، وآلون ، وديان ، وبيغن . وهؤلاء أعطوا الإمتيازات لأنفسهم ولبقية اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين من أوروبا وأمريكا ، أما يهود الشرق الذين ليسوا من دول أوروبا أوأمريكا فهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة ، فهم وقود الحرب ويعيشون في أدنى درجات السلم الاجتماعي .

الفئة التي والت اليهود والنصارى وأصلها مؤمن

وتتحدث الآيـة محذرة المؤمنـين من أن يوالوا يهــود والنصارى ، وقد قـال أبو جعـفر الطبري في تفسير قوله تعالى (ومن يتـولهم منكم فإنه منهم) [المائدة :51] : "ومن يتول يهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه مؤمن وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه كحكم من تولاه " .

وبالفعل حينما بدأت الموالاة بين يهود والنصارى ، تمهيدا لإقامة دولة يهود في أول هذا القرن ، كان يهود والنصارى قد مهدوا الطريق لهذا الأمر بإنشاء الجمعيات والنوادي ، وقد أدخلوا فيها بادىء الأمر أبناء النصارى ويهود فقط ، ولكن ذلك لم يؤد إلى الغرض المقصود إذ أنهم يستهدفون الإسلام والمسلمين ، فأدخلوا أبناء المسلمين في تلك والنوادي فيما بعد . وكانت الدولة العثمانية (دولة الخلافة) قد أصبحت الرجل المريض ، وأنشأوا المدارس الغربية في ديار المسلمين ونشروا الثقافة الغربية ، وبلغ هذا الأمر ذروته بإنشاء الجامعة الأمريكية في بيروت، هذه الجامعة التي خرجت كثيرا من الساسة وحكام العرب الذين ساهموا في قيام ما يسمى دولة إسرائيل فيما بعد . وقد ذهب نفر من أبناء الأثرياء من المسلمين لتلقي العلم في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، ورجعوا من الغرب مفصولين عن فكرهم الأصيل ، وبدأوا يدعون إلى القوميات ويعادون الإسلام الذي لا يميز بين بني البشر إلا بالتقوى . وبدأ الغرب الصليبي المتعاون مع يهود ينشىء جمعيات لهؤلاء الشباب القومي كجمعية الإتحاد والترقي في تركيا لأبناء الأتراك ، وجمعية العهد لأبناء العرب وكان مقرها باريس .

وتعاون دعاة القومية مع يهود والنصارى على هدم دولة الخلافة : الأتراك يدعون إلى القومية الطورانية وفرضها على الشعوب التي تتكون منها الدولة الإسلامية ، والعرب يدعون إلى القومية العربية العلمانية والتخلص من حكم الدولة العثمانية . وكان السلطان عبد الحميد قد فهم اللعبة ، فقاوم ما وسعته المقاومة ، وكان قد ورث الدولة العثمانية وهي شبه منهارة ، ولكنه استمر يناور دول الغرب ثلاثين عاما حتى إستطاعوا أن يتغلبوا عليه في النهاية ، فعزل عام 1909م ، وكان عزله تمهيدا لقيام دولة يهود في فلسطين . وقد تعاون القوميون على عزله واستلموا الحكم وكان السلطان الذي خلف عبدالحميد ألعوبة بين أيديهم وأرادوا تتريك الشعوب الإسلامية فجعلوا لغـة التدريس في المدارس اللغـة التركيـة مما عجل بالقضاء على الدولة الإسلامية العثمانية ، وكانت ( الثورة العربية الكبرى ) التي قامت لتخليص العرب من الدولة العثمانية بتخطيط من الإنجليز . ثم جاء أتاتورك الذي حاول هو وخلفاؤه من بعده أن ينزعوا تركيا من الإسلام ، أو بالأحرى أن ينزعوا الإسلام من تركيا ! . ولكن الشعب التركي المسلم بدأ يعود متمسكا بدينه ، وقد فشلت مخططات تكفيره . ثم جاءت الحركات القومية الثورية ، والأحزاب الإشتراكية ، والماسونية . وكلهم تعاونوا مع يهود والنصارى بشكل أو بآخر ، وكلهم ساهم في قيام دولة يهود فأبعد الإسلام عن الساحة نهائيا . وذلك لأن دولة يهود نجسة لا يمكن أن تقوم في أرض طاهرة يحكمهـا الإسلام ، فلا بد من حكومات نجسة فكريا حتى تقوم دولة ليهود من خلالهـا ، فكان الفكـر الذي سيطر على الأرض الإسلاميـة فكـرا أباح الزنا ودواعيـه ، وأباح الخمر وشجع عليه ، وأباح القمار وأنشأ له نواد ، وأباح الربا وأسس له مؤسسـات ضخمـة تأكل أمـوال الناس بالباطـل ، وحـورب الإسلام ورجال الإسلام حربا لا هـوادة فيهـا ، فجعلوا من الإسلام عنوانا للتخلف الحضـاري والتخلف العقلي . وصدق الله العظيم حين قال (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا إنقلبوا إلى أهلهم إنقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالـون * وما أرسلوا عليهم حافظـين) [المطففين :29-33] .

ومن ضمن الخطة التي وضعت لمحاربة الإسلام ، وحتى تقوم دولة يهود ، حورب علماء الإسلام في أرزاقهم ، وأصبح ينظر إليهم على أنهم طبقة (غير منتجة) ماديا ، وأنهم عالة على مجتمعهم ، ونتج عن هذا مزيد من التفكك في المجتمع مزيد من التآكل في الأسرة ، ومزيد من الميوعة ، وانقلب ميزان الفضـائل ، فأصبح التقـدم يعني الإنحلال ، وأصبح الرقي يعني الثـورة على الفضيـلة ، وأصبح الكرم يعني أن تكرم بعرضـك ، وأبعد كل ما له علاقة بالإسلام عن الساحة ، حتى أن الكلمات التي لها علاقة بالإسلام منع إستعمالها في المعركة فكلمـة (الجهاد) مثلا استبدل بها (الكفـاح والنضـال) ، وكلمة (الكفار) استبدل بها (الاستعمار) ، وكلمة (اليهودية) استبدلت بها (الصهيونية) حتى تطمس الإصطلاحات الإسلامية والإسلام نهائيا . وبدلا من أن يكون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين أصبح الولاء للقائد والحاكم والحزب وللكفر والكفار . والإسلام ربى المسلمين على أن يكون ولاؤهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنه منعهم من أن يربطوا الإسلام بشخصه الكريم ، ولذلك حين خرجت الإشاعات في غزوة أحد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قتل ، أصاب الوهن نفوس بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- ، واعتقدوا أن الإسلام قد انتهى بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأنزل الله مؤدبا للمؤمنين ومعلما لهم ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [آل عمران : 144] .

وهكذا ركز القرآن الكريم في آيات عديدة على بشرية محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ويقول تعالى مؤكدا على بشرية نبيه خوفا من أن يؤلهه الناس (قل إنما أنا بشــر مثلكـم يوحـى إلي أنما إلهكم إلـه واحد) [الكهف : 110] . ويقـول الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) :" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنمـا أنا عبد الله ورسولـه " . وكان الرجل يدخل على مجلس النبي (صلى الله عليه وسلم) فيسأل : "أيكم محمد؟ " حيث كان لا يتمـيز عن أصحابه بلباس أو مجلس .

ولكننا رأينا في زمننا هذا أن الزعيم مقدس ، وأن الحاكم لا يخطىء ، فمؤسس الحزب ينظر له بقداسة . ولقد إستغل بعض الساسة والزعماء هذا الأمر ، فأخذوا يستهزئون بالشعوب ، ويتلاعبون بالعقول ، والناس تلهث وراءهم تصفق بأيديها وتهتف بحناجرها ، وعقولها في إجازة ! والزعيم يلعب بالعواطف ، يجعل الأبيض أسود ، والأسود أبيض ، ثم يعود البياض إلى بياضه ، ويعود السواد إلى سواده هو هو لم يتغير . فبطل الأمس خائن اليوم ، وفجأة تقضي مصلحة الزعيم أن يعود هذا البطل إلى خيانته ، ثم يعود مرة أخرى إلى بطولته ، والجماهير تتبع رأي الزعيم لا تسأله لم غير ؟ ولم بدل ؟ إنه أمن ولاءها بعد أن أفقدها وعيها . وهكذا ساق أصحاب الشعارات المتجردين من الإسلام الأمة إلى الهزائم المتلاحقة والنكبات المتتابعة بعد أن رضوا أن يكونوا حكاما على الدويلات الممزقة والتي صغر بعض منها فأصبح على مستوى الحارة . وإن تلك الدويلات لها أعلام وسفارات وسلام رسمي ، وهي عضو في هيئة الأمم المتحدة بجانب الدول الكبرى التي تتحكم في مصائر الأرض . ولكن كل ذلك كان حتى تقوم دولة يهود وسط التمزق والتشرذم والتلاعن والتباغض بين حكام الدويلات . وأغلب حكام هذه الدول أو الدويلات ممن يوالون النصارى ويهود ، فيعتقدون بعقيدة النصارى القائلة بفصل الدين عن الحياة ، وأن الدين لا علاقة له بحياة الناس ، فهم يبيحون الربا كما أباحه النصارى ويهود ، ويبيحون الزنا كما أباحه النصارى ويهود . وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلـوا جحر ضب لدخلتموه ، ! قالـوا يا رسول الله : اليهـود والنصارى ؟ ، قال : فمن إذن ؟ " !! وبذلك صدق قـول الله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ، لأنه ( المقصود موالي اليهود والنصارى ) آمن بعقيدتهم ونمط حياتهم ، وبالرغم من الهزائم المتلاحقة التي لحقت الأمة على أيدي من والى يهود والنصارى ، فقد استمروا في طغيانهم يعمهون ، فلم يغيروا أنظمة الكفر ، ولم يحرمـوا ما حرم الله ورسوله ، حتى يغـير الله ما بهم ، وما حل بأمتهـم من هزائـم .

ومضت هذه الفئة في إرضاء يهود والنصارى حتى لم تترك طريقا ترى فيه إرضاء ليهود والنصارى إلا وسلكته . فحولت وسائل الإعلام في العالم الإسلامي إلى أدوات تهدم كل القيم التي تكونت منها أمتنا والتي إستطاعت بها أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، تهدي الضال ، وتدل الحائر ، وتطعم الجائع ، وتحسن لليتيم ، ولا تنسى البائس الفقير ، ويتقدم الإنسان في ظل هذه القيم بجهده وتقواه لا بعرقه ونسبه ، يجعل العبادة لله وحده لا للزعيم ولا للقائد ولا للحزب ولا للمال ولا للشهوة ولا للعقل ولا للعلم ، فيكون الإنسان في ظل هذه حرا كما خلقه الله . . فجذور حريته خيوط تمتد إلى منابع السماء ، فيها الفضيلة والرحمة والمحبة والإيثـار والإحسان إلى ذوي القربى والجـار ولو خالف دينك أو لم يكن على عقيـدتك . إنها قيم تجعل الأسرة هي اللبنة في بناء المجتمع ، أسرة متناسقة منسجمة لها قائد ، فإذا إنحرف قائد الأسرة تدخل ولي أمر المجتمع فحجز على السفيه ، ومنع تصرف المجنون ، وهكذا تمشي الحيــاة في ظل القـيم في إنسياب رحيم وإتساق جميل ، يعرف الإنسان في ظل هذه القــيم أنه خلق لعبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات : 56] ، فهو يأكل ليقوى على العبادة ، وهو يشرب خوفا من أن يذوي . العبادة ليست في الصلاة وحدها ، وليست في الصوم وحده ، وإنما العبادة في كل عمل يقوم به الإنسان ، فهو لا يغش لأن الغش حرام ، وهو لا يسرق لأن الله منع السرقة ، وهو لا يزني لأن الزنا مرفوض من الله ، وهو يجاهد لأنه يريد أن يدخل الناس جميعا في الخير الذي دخل فيه حتى يصل الناس جميعا إلى الله بسلام وأمن ومحبة ، وهو لا يخون أمته لأن الخائن مرتد ، وهو لا يعين عدو أمته لأنه بذلك يذهب إلى النار ، وهو لا يرابي لأن من رابى فقد أعلن الحرب على الله ورسوله ، ولا يحتكر أقوات الناس لأن من إحتكر فقد أخطأ كما ورد في الحديث :"المحتكر خاطىء"، وهو لا ينام على شبع وجيرانه جياع وذوو رحمه لا يجدون الطعام لأنه بذلك يكون قد خرج من حظيرة الإيمان كما ورد في الحديث :"ما آمن بي من بات شبعـانا وجاره جائـع إلى جانبـه وهو يعلم" .

ففي ظل القيم الإسلامية يكون المال وسيلة لإشباع حاجات الإنسان الضرورية بالطرق التي رسمها الشرع ، وما تبقى منه فهو للإنفاق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله ووجوه الخير المختلفة ، وفي ظل هذه القيم يتعلم الإنسان الصدق لأن الكذب حرام ، الوفاء واجب لأن الغدر حرام . وجاءت وسائل الإعلام لتنسف هذا كله أو لتشوه هذا كله ، فأخذ تقنع الناس بأن الربا ضرورة من ضرورات الحياة الإقتصادية وأن الناس لا يعيشون بغير ربا ؟؟ وغرق الناس أو كثير من الناس في الربا ، وبدأوا يذوقون القلق ، ويعرفون الأرق ، تلاحقهم الأقساط ، وتلهب ظهورهم الكمبيالات . والمرابي لا يرحم ولو أدى بالإنسان إلى بيع أثاث بيته . إنه يريد الربا ويريد المال . أما الرحمـة ، وأما النظرة إلى ميسرة فهي أليق بالمؤمنين ، أما المرابي فهو إنسان آخر لا يهمه عذاب الإنسان ولا جوع الأطفال ولا تحطيم الأسر ، وكلما إزداد أكله للربا إزداد تحجر العاطفة في نفسه ، فهو لا يرحم ولا يشـفق إلا لمصلحة يراهـا ، أو ليتظاهر بأنه حمل وديع ، وإنسان من أصحاب الخـير . وبدخول الربا ، عرفت المجتمعات الإسلامية شقاء المجتمع الغربي الربوي ، وبدأ الناس يعيشون في دوامة من الطمع والهلع ، يذوي الخير في نفوسهم ، وتلاحقهم التعاسة والشقاء . وبدأت الكوارث الربوية تتوالى في بلاد المسلمين في حتمية إليهة حيث يقول تعالى (يمحق الله الربا) [البقرة : 276] . وتهاوت مؤسسات ربوية ضخمة معلنة إفلاسها ، وأممت مؤسسات ربوية كثيرة أخرى ، وولول صغار المساهمين وتحسروا على مالهم الذي ضاع ، والذي محق فيه الربا الحلال والحرام ، وكثرت الأمراض نتيجة للقلق وتنوعت ، وتنوع معها العلاج وكثر ، فهناك حبوب من أجل أن ينام الإنسان ، وأخرى من أجل أن يستيقظ ، وثالثة من أجل أن يخفف ضغط الدم ، ورابعة لتفتح الشهية ، وخامسة وسادسة .. الخ من الأدوية والمسكنات . ومن المناظر المألوفة في مجتمعنا اليوم أو في مجتمع التجار وأرباب الأموال ممن أبتلوا بالربا فإنه إذا كسدت السوق لأمر أو لآخر ترى التجار المقترضين وأرباب الأموال المرابين وقد علاهم الوجوم وعصرتهم الهموم ، يقترض الواحد من جاره ليسدد القسط الذي حان موعده ، ثم يبيع حلي إمرأته ، ثم لا يجد شيئا يبيعه أو يقترض منه ، فيسقط صريع الربا في شلل أو مرض ، وعندها يموت في سكتة قلبية . وإرضاء ليهود والنصارى ، أباحت الفئة المتعاونة معهم الإحتكار ، فأصبحت بلادنا في قبضة الشركات الإحتكارية ، وأصبح كبار التجار يخزنون أقوات الشعب لدرجة أنهم يرفضون تخفيض السعر ليأخذوا بذلك ربحا وفيرا حلالا أو حراما ، فيبنون به القصور ، ويساهمون في البنوك . . وهكذا دواليك ، ولا يهمهم بعد ذلك أشبع الناس أم جاعوا ؟ اكتسوا أم عاشـوا في الأسمــال الباليــة الخرق المرقعــة ؟ وبعد ذلك يخرجـون على الناس (بأعمـال الخير) ليخففـوا على الناس كما يزعمون فينشئون لهم اليانصيب الخـيري ، ويتهافت الفقراء على شرائه طمعا في الربح السريع ، ويحرمون أطفالهم كل أسبوع أو كل شهر أو كل إصدار من ثمن ورقة اليانصيب ، فيزدادون فقرا على فقرهم ، وجوعا على جوعهم . وأفتتحت نواد للقمار تقليدا لنوادي الغرب ، هذه النوادي التي تتحطم فيها نفسية الإنسان وكرامته . وبعض نـوادي القمـار في أوروبا والغرب يعمرهــا أثرياء النفط ، فتنساب الأمــوال من بـين أيديهم إلى جيـوب يهـود والنصـارى لترتد علينـا بعد ذلك طائرات تقصف ومدافـع تدمـر ؟! .

ومن المسارعة في إرضاء يهود والنصارى هذه الأموال المكدسة في بنوك أوروبا وأمريكا ، سواء للدول أو للأفراد الأثرياء ، والتي تدعم عملات هذه الدول التي تتعاون مع يهود لإذلالنا لإفنائنا ، هذه الأموال التي لا يكاد يحصيها عدد ، تفقد قيمتها مع الزمن ، نتيجة للتضخم النقدي وللأزمات الاقتصادية التي هي من مميزات النظام الرأسمالي في هذا العصر . وهكذا تفقد الأمة ثروتها ، لأن الذين يريدون إرضاء يهود والنصارى لا يخططون لبناء أمة قوية ، ولا لدحر عدو ، ولا لإستخلاص حق .

وإرضاء ليهود والنصارى ومسارعة في إرضائهم ، أصبحت دور السينما في العالم الإسلامي تعرض أفلام الجنس ، ومؤسسات التلفزيون تنافس السينما في هذا المضمار ، والكل يعرض أفلام الجريمة والعنف ، وأطفالنا وأولادنا وبناتنا يرون فيتأثرون ويشاهدون فيقلدون كيف تتمرد المرأة على زوجها ، وكيف تحب جارها ، وكيف يخون الزوج زوجته ، وكيف يعاشر عشيقته ، ويبح صوت الوعاظ والمرشدين بالدعوة إلى الفضيلة والتمسك بأهداب الدين ، ويستمع الناس إليهم - هذا إذا استمعوا - كأنها أصوات جاءت من المجهول ، فيكون لصوتهم صدى يلامس الآذان ولكنه لا يدخل إلى القلوب ، ولا يؤثر في تغيير منهج الحياة . وأصبح المجتمع يعاني من الشباب المراهق الذي يقلد أفلام الكاوبوي وعصابات شيكاغـو والجنس المستـورد من هوليـوود ( وإن كان الشبـاب اليـوم بدأوا يعودون إلى الله ) .

ومن المسارعة في إرضاء يهود والنصارى إثارة النعرات القومية والوطنية والإقليميـة والطائفيـة والمذهبيـة . ومن المعلوم أن الإسلام هو دين الله للناس كافة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ، فإذا إعتنقه الناس كانوا سواسية كأسنان المشط لا يتفاضلون إلا بالتقوى . ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن يكون للمسلمين إمام واحد وخليفة واحد ، يسوسهم بأحكام الإسلام ، ويرعاهم برعايـة الـقرآن وسنـة رسـول اللـه (صـلى اللـه عليـه وسلم) . يقـول رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إذا بويع لإمامين فأقتلوا الآخر منهما " ، وحينما ذهبت دولة الإسلام وتآمر عليها يهود والنصارى ، قسمت بلاد المسلمين إلى دول ودويلات ومشيخات وإمارات ، وحكام هذه الدول والدويلات أو المشيخات أو الحارات كلهم ينـادي بالوحدة ، وكلهم لا يريدها ؟! الوحدة تعني إلغاء الإمتيـازات ، وإلغاء الجوازات ، وإزالة الحدود ، وأن تعود الأمة - كما أرادها الله - أمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون) [الأنبياء : 92] . فإرضاء ليهود والنصارى أصبحت القوميات تتقدم على الإسلام في بلاد المسلمين ، وهذا قومي عربي يتعرق بالعروبة كجنس وعرق ( مع أن العروبة بمعناها الثقافي واللغوي ، هي وعاء الإسلام ، ومفروض على كل مسلم أن يعرف لغة القرآن ، لأن عبادته لا تصح إلا باللغة العربية يقرأ بها القرآن ) . . وهذا تركي طوراني ، وآخر فارسي ، ورابع باكستاني ، وخامس وسادس . . ومن العجيب أنه في باكستان لما انفصلوا عن الهند باسم الإسلام ، ولم يطبقوا الإسلام في حياتهم ، فخافوا أن تسقط حجة التقسيم فجعلوا الإسلام قومية ، تحل محل القومية الهندية ، وهذا تحريف في الإسلام ، وتضليل للمسلمين ، وكما كانت التجزئة في بلاد العرب على صورة أبشع من بقيـة بلاد الإسلام ، ركز يهود والنصـارى على تثبيتها ، ففي بلاد الشام مثلا أنشئت أربع كيانات ، أعطي قسم الجنوب الغربي من بلاد الشام ( فلسطين ) إلى يهود ليقيموا عليها دولتهم ، وأعطي قسم الشمال الغربي ( لبنان ) منها إلى النصارى وأقاموا لهم فيه دولة وهذه الدويلة عملت على إضطهاد المسلمين فيها مع أنهم الأكثرية الساحقة من سكانها ، وأنشئت إمارة شرق الأردن في قسم الجنوب الشرقي من ديار الشام ، وبقيت سوريا الأم في الجزء الشرقي من ديار الشام دولة وحدها . وقسمت جزيرة العرب إلى إمارات لا تكاد تحصى ، ويتيه فيها العد ، والمفروض أن تندمج كلها بكيان واحد ، كما ينبغي أن يندمج المغرب العربي الكبير بدويلاته الخمس لتكون وحدة جغرافية واحدة ، وأن تعود الوحدة إلى شطري دولة باكستان ، وتضم إليها أفغانستان ، ويندمج الجميع مع بلاد إيران ، كما تتوحد بلاد الشام مع العراق ، ويتوحد الجميع مع مصر والسودان ، وهكذا بقية بلاد المسلمين في أفريقيا وفي آسيا . عند ذلك نكون قد أعلنا الرفض ، وتمردنا على التجزئة والتقسيم ، ورفضنا العنعنـات الإقليميـة والنعرات القومية ، وعدنا إلى محـور قوتنا الإسلام يوحـدنا ونكون في ظله كما أرادنا الله خير أمة أخرجت للناس .

إن الحكام الذين يتمسكون بأسباب الهزيمـة والفرقـة ومن لف لفهم من مسؤولين ومنتفعين من الذين يسارعون في إرضاء يهود والنصارى قد قطعوا صلتهم بالله ، فلم يعودوا يخافونه ، وإنما يخافون يهود والنصارى ، وإذا سألتهم لم هذه المسارعـة قالـوا (نخشى أن تصيبنا دائرة) [المائدة : 52] . فهم يخافون على كراسيهم ، ويخافون على دنياهم ، وكأنهم في الدنيا خالدون ، ولذلك يقولون (نخشى أن تصيبنا دائرة) . وهذا تصور منهم أن مصيرهم مرتبط بيد أعدائهم من يهود والنصارى ، إذا رضوا عنهم استمروا في سلطانهم وحكمهم ، أو في ملذاتهم وامتيازاتهم ، وإذا غضبوا عليهم أصابتهم الدوائر من عزل واستبدال ، مع أنهم لو توكلوا على الله فعملوا بما يرضي الله وتوحدوا على كلمة الإسلام فإن الله يكفيهم شر عدوهم (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [الطلاق : 3] . وما تعلقت أمة ولا فرد ولا جماعة بالله فخذلها الله . ومن خوف الحكام كان التفريط في الأرض المقدسة ، والعمل لتثبيت دولة يهود . وكان أشد الحكام (وطنية) أو (تطرفا) ممن والى يهود النصارى ينادي بقرارات التقسيم ، ثم توالت الهزائم ، وسقطت قطع أخرى في أيدي العدو ، وبدأ أشدهم تطرفا ينادي بإعادة ما أخذ عام 1967م ، أو بالأحرى ما سلم عام 1967م ، حيث لم تحدث معركة حقيقية على جميع الجبهات المحيطة بدولة يهود !! . وبدأت المطالبة تتقلص حتى وصلت كامب ديفيد حيث رأينا حاكما ، ممن والى يهود والنصارى يعطي فلسطين كلها ليهود وإلى الأبـد ( حسـب تخيـله ) ، وكل ذلـك لأنـه يخـاف على الـترف الـذي يعيشـه و (النعيم) الذي يحياه ، وهو في خوفه الدائم يخاف الحرب ، ويريد أن يمنع عن الأمة الإستشهاد ، ويعلن إلغاء الجهاد متحديا بذلك ربنا وعقيدتنا حيث الجهاد فريضة من فرائض الإسلام ، وهو ذروة سنام الإسلام ، جعله الله مكرمة للمسلمين حتى يستشهدون وينعمون في جنات النعيم . ولقد أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستمر الجهاد إلى يوم القيامة حيث يقول :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر" . ويقول تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة : 216] . وتوهم هذا الحاكم أنه يستطيع أن يقامر على عقيدة الأمة وكتاب الله وحضارة الإسلام ، وأن يجعل أمتنا أرقاما تافهـة ، وعقولا فارغة ، وأن يغرقها في المتع الرخيصة ، والحياة المهترئة ، وأن يفكك الأسرة ، ويحرم علينا الجنة ، حيث الجنة محرمة على الأذلاء ، لقوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) [ النساء : 97 - 99 ] . ويتساءل سائل : أين يهاجر المسلم اليـوم وقد إنحرف الحكم بالإسـلام في كل بلاد المسلمـين ، فنقول له : إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب عن ذلك بقوله :" لا هجرة بعد الفـتح ولكن جهــاد ونية " ، وهذا الحاكم الذي قامر بحضارة المسلمين ، أصابه الغرور فصدق تصفيق الجماهير التي ساقها أعوانه لتصفق له ، وظن أن هذه الجماهير تؤيده حقيقــة ، وهي جماهير مسكينــة لا تدري ماذا تفعل ، تساق إلى المذبح وهي تصفق ، ويتآمر على مصيرها وهي ترقص ، وصدق الله العظيم (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) [الفرقان : 44] . وإلا فهل هناك عاقل من المسلمين المكلفين شرعا يخرج ليستقبل أعداءه من يهود هاتفا بحياتهم وحياة زعمائهم الذين اغتصبوا أرضه ، وأذلوا قومه ، وهتكوا عرضه ، ودمروا المدارس بأطفالها ، وحرقوا القرى بمن فيها ، وبقروا بطون الحبالى ، ولم يتورعوا عن بقر بطون الأطفال . هذه الجماهير التي كم صفقت لقاتليها ، ورقصت لذابحيها ، على إستعداد لأن تصفق لكل قادم ، وعلى إستعداد لأن تلعن كل ذاهب ، وهي بين التصفيق وبين اللعن معرضة عن ذكر الله ، وبذلك أصابها العمي (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [طه : 124-126] .

وهذه الجماهير لا تؤمن بالله إلا وهي مشركة ، ولكل فرد منها معبود مع الله ، فهذا يعبد الزعيم ، وهذا يقدس أقوال الحاكم ، وذاك يعبد المال أو المتاع ، وآخر يعبد الشيخ ، وآخر يعبد الحزب . وهذه الجماهير المسكينة التي ضللتها زعاماتها ، وخانها علماؤها من أعوان الحكام الذين باعوا آيات الله بثمن بخس من أجل منصب تافه أو عرض زائل .

التغيير المنتظر

بينا فيما سبق كيف أن الموالاة بين يهود والنصارى لم تحدث إلا في هذا القرن عداوة لله ولرسوله وللمسلمين ، وكيف أنهم تعاونوا على إقامة دولة يهود مع أنهم كان يضطهدون بعضهم بعضا ، أو بالأحرى كان النصارى يضطهدون يهود . وبينا أن فئة أصلها من جماعة المؤمنين تعاونت مع يهود والنصارى في ضر الأمة وتمزيقها والمعاونة لإقامة دولة يهود . وبينا كيف سارعت هذه الفئة بعد أن تحولت إلى منافقة في قلبها مرض إلى إرضاء يهود والنصارى ، وأن الفئة الباغية استمرت في بغيها وضلالها مما جعل الفئة القليلة من المؤمنين في حيرة من أمرها ، حيث الفئة الحاكمة المتسلطة على بلاد المسلمين إرتدت حينما والت يهود والنصارى (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة : 51] فأخذت الفئة القليلة المؤمنة تتطلع نحو السماء وتسجد متضرعة إلى الله . ومن هذا الوضع اليائس تأتي الآيات التي نحن بصددها فتعطي أملا للحائرين ، وتبشر المؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى سيغير الأمر بحكمته حيث يقول (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) [المائدة : 52] ، و "عسى" للترجي ، ولكنها في حق الله لليقين ، والفتح هنا الفصل والحكم ، كما قال الله تعالى (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) [الأعراف : 89 ] ، أي : افصل واحكم . إذ أن الآية تتحدث عن الموالاة بين يهود والنصارى ، هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة ، لأن سورة المائدة من أواخر سور القرآن نزولا ، فقد روت عائشة رضي الله عنها قالت :" آخر ما نزل من كتاب الله سورة كاملة ، سورة المائدة فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " ، وليس المراد ( بالفتح ) فتح بلاد المشركين ، كما قال بعض المفسرين ايضا ، إذ أن عملية الفتح الإسلامي بدأت في بلاد الوثنيين والصابئة كبلاد فارس والهند ، وفي بلاد النصارى كبلاد الشام ومصر . ولم يكن هناك تعاون في أثناء الفتح الإسلامي بين يهود والنصارى ، ولذلك تعين المعنى أن الفتح هو الفصل والحكم ، وأن الله سيفصل في الأمر بين الفئة المؤمنة وبين المتسلطين من الحكام على بلاد المسلمين الذين تعاونوا مع يهود والنصارى .

وفي الآية إشارة إلى أن أرضا من أرض الإسلام ستسترد من يهود والنصارى بعد أن إستولوا عليها حيث سيفتحها الله على أيدي المؤمنين ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ) و " أو " هنا ليست لتخيير ، لأن " أو " معانيها ثلاثة : فهي تأتي للتخيير ، أو لمجرد العطف ، أو للإباحة . و " أو " هنا لمجرد العطف حيث للتخيير في حق الله لا يجوز ، لأن الله يعلم ما يريد . ولذلك يتحدث الله في الآية عن فتح وأمر من عنده يغير واقع المسلمين المرير ، ويفسد به على الفئة التي والت يهود والنصارى أمرها .

والفتح الذي أشارت إليه هذه الآية سيأتي قريبا بإذن الله ، وأمر الله بدأ يمهد الدرب للنصر المرتقب ، وعلامته هذه الظاهرة العجيبة التي بدأت في كل بلاد المسلمين بعود الشباب المثقف إلى الإسلام فجأة بعد أن يئس من الأيدولوجيات المستوردة ، والتي ما رأت الأمة في ظلها إلا الهزائم المتلاحقة والتجزئة والفرقة ، ففكر تفكيرا جيدا ، فأهتدى إلى الله ، وأصبحت هذه الظاهرة موضع بحث في العالم الكافر كله ، وفي العالم الإسلامي أيضا . ولقد أصدر الرئيس الأمريكي السابق كارتر إلى رجال مخابراته أمرا بدراسة هذه الظاهرة ، وألفت كثير من الجامعات لجانا لدراسة هذه الظاهرة ، وهم يعلمون أن الأمر يتعلق بمرحلة أخبرت عنها الآيات والأحاديث ، وصدق رسول الله الذي قال :" قلوب العباد بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء " .

وهذا التغيير من ظواهره أيضا فشل الكمالية والكماليين بعد خمسين عاما من الجاهلية التي أراد بها ( مصطفى كمال أتاتورك ) بوصفه اليهودي مجهول الأب أن ينزع الإسلام من تركيا أو ينزع تركيا من الإسلام نهائيا وإلى الأبد . ولكن الشعب التركي المسلم الذي انخدع قسم كبير منه في أول الأمر بالكمالية والكماليين - نسبه إلى مصطفى كمال - ، حيث عمل يهود والنصارى على إضفاء صفة البطولة على مصطفى كمال ، وأنه ينقذ تركيا من الإستعمار ، رغم أن مصطفى كمال لم يكن بطلا ولا شبه بطل ، ولكن بعد أن سلم سوريا في الحرب العالميـة الأولى إلى الحلفاء في عملية إنسحاب خسيسة ، وكان قبلها قد شارك في تسليم طرابلس الغرب سنة 1911م إلى إيطاليا ، واستطاع أن يصل بدهائه وغدره وخيانته وبمعاونة الغرب إلى قيادة الجيش العثماني الذي حارب الحلفاء بعد دخوله تركيا ، وفي هذه الأثناء تمت الصفقة ، إذ أظهر آخر الخلفاء العثمانيين (عبد المجيد خان) بمظهر الخليفة المستسلم الضعيف المتعـاون مع الأعداء في إسـطنبول ، وأظهر مصطفى كمـال كبطل التحرير الوطني ، فكان أن إنسحب الحلفاء من تركيا مقابل ما أعلنه ( أتاتورك ) فيما بعد وهو أن يلغي ( الخلافة ) إلى غير رجعة ، ويعلن تركيا دولة علمانية ، ويلغي الأحرف العربية ، وأن يجعل الآذان باللغة التركية ، وأن يمحو كل مظهر إسلامي في الحياة التركية . وهكذا سارت الأمور ، وأصبح أتاتورك معبود الجماهير المضللة في تركيا وخارج تركيا بإعتباره بطلا وطنيا . ولكن عقيدة الشعب التركي المسلم كانت أقوى من المؤامرة وأصلب من الخداع ، فسرعان ما بدأ يستيقظ على الحقيقـة المخيفة ، فأدرك أن أتاتورك لم يكن بطلا وطنيا ولا زعميا ملهما ولا قائـدا حكيما ، وإنما كان محطم أمة مشوه تاريخ ، وعدوا لله ولرسوله وللمؤمنين ، وأنه كان ألعوبة في أيدي يهود والنصارى ، وأنه كان من يهود الدونمة ، الذين هاجروا من إسبانيا بعد خروج المسلمين من الأندلس واستقروا في سالونيك وتظاهروا بالإسلام وأخفوا الكفر وأسسوا المحافل الماسونية ، وعملوا بدهاء وصبر - بعد أن وصلوا إلى أعلى المراكز بأسمائهم الإسلامية - على تحطيم الدولة وذهاب الخلافة ، وظن الناس ، وظن يهـود والنصارى أن تركيـا قد إنتهى الإسلام بها أو إنتهت من الإسلام ، ولكن الأمر كان على غير ما يتوقعون . فعقيدة الشعب المسلم ممتدة في جذور عميقة في نفسه ، والإسلام هو حياته ، وهو عاداته ، وهو مجده ، وهو إنتصاراته ، وهو إستشهاده ، ولذلك فإن بقايا الأحزاب التي أقامها أتاتورك حينما تريد أن تخدع الشعب وتنافق الشعب يحمل زعماؤها المصاحف ، ويقبلونها أمام الجماهير المسلمة ليستمروا في خداعها . ولكن كل ذلك إلى حين ، فسينكشف أمرهم كما إنكشف أمر أتاتورك ، ولقد أحس المرحوم عدنان مندريس بالشعور الحقيقي للشعب التركي المسلم ، وأنه لم يستطع الدستور العلماني الذي وضعه أتاتورك ، ولا الكبت ، ولا الإرهاب ، ولا تغيير الحروف العربية للغة التركية إلى الحروف اللاتينية والتي أراد بها أتاتورك وأعوانه والمخططون من ورائهم يهود والنصارى أن يقطعوا صلة الشعب التركي بتراثه وتاريخه ، وبعقيدته وبإسلامه ، وبأدبه وحضارته ، وشعره ونثره ( إذ منذ أن قامت دولة السلاجقة الأتراك ، ثم الدولة العثمانية التركية كتبت حضارتها بالحروف العربية ، بالإضـافة إلى شروح القرآن والأحاديث النبوية ، وكذلك كتب القصة والأدب ) . فأرادوا أن يقطعوه عن كل ذلك ، ولكن لم ينقطع إذ بقي القرآن كتاب الله وحده ويتحدى الظلم والدساتير والبطش والإرهاب ، فكان المسلم التركي - وكل الأتراك مسلمون - يضطر إلى أن يقرأ القرآن بلغته العربية حتى يستطيع أن يصلي . وأخيرا أعاد مندريس ، بعد أن شعر بحقيقة الشعور الإسلامي ، أعاد الآذان باللغة العربية ، وفتح المعاهد والكليات في مختلف الولايات التركية لتدريس الشريعة الإسلامية باللغة العربية ، وبنى المساجد ، فخاف الغرب أن يعود الإسلام مرة أخرى مؤثرا في حيـاة تركيـا . . هذا الإسـلام الذي جعل الشعب الـتركي يأخذ ( القسطنطينية ) من أيدي الصليبيين لتصبح مدينة المآذن والمساجد ، بعد أن كانت مدينة النواقيس والكنائس ، فأسرع الغرب لعمل إنقلاب ضد عدنان مندريس ، فقتله وأعدمه ، ولكنه لم يستطع أن يعيد الآذان إلى اللغة التركية ، بل بقي باللغة العربية ، ولم يستطع أن يلغي المعاهد التي أنشأها لتعليم الشريعة الإسلامية بل زادت وأتسعت حتى كادت تبلغ الثلاثمائة بالإضافة إلى ستة معاهد عليا ، وكليتين جامعتين . وبدأ الشعور الإسلامي ينفض الغبار ، وينفك من الإسار ، ويفتح عينيه على الحقيقة ، فإذا حزب إسلامي ( حزب الرفاه ) يدخل الحياة النيابية على أساس الحكم بالإسلام والعودة بالإسلام ، ويقيم هذا الحزب مؤتمرا للسيرة النبوية في إستطنبول يدعو إليه عددا من العلماء والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي . ولم يكـن عقـد هذا المؤتـمر بالسهـولة الميسورة ، إذ أن الكماليين واليساريين حاولوا جهدهم أن يمنعوه ، ولكنه انعقد في عاصمة الخلافة ، ولم يمض على مـوت أتاتـورك أربعــون عاما ، وصدق الله العظـيم حـين قال (إن الذين كـفـروا ينفقــون أموالهـم ليصـدوا عن سبيــل الله فسينفقونهــا ثم تكـون عليهـم حسرة ثم يغلبــون) [الأنفال : 36] . ولقد رأينا في إستطنبول صبية في عمر الورود في الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمرهم يحفظون القرآن غيبا ويتلونه وهم يستشعرون العزة الروحانية والخشوع لله .

وهكذا بدأ مارد الإسلام يتململ وينفض غبار التاريخ تمهيدا لعودته إلى قيادة المسلمين وتوحيدهم ولم شملهم ، ثم ينطلق لينقذ البشرية من جحيم حياتها ، ومن إنهيار القيم فيها ، وليعيد الهدوء إلى نفوس الناس والإستقرار والطمأنينة .

هؤلاء الناس المساكين الذين يبحثون عن المخلص ، فلم يجدوه في الكنيسة وطقوسها الوثنية ، فكثرت الأديان ، وكثرت الآلهة ، وكثر الكذابون والدجالون ، وما قصة معبد الشعب في غيانا الأمريكية حيث أمرهم نبيهم المزعوم أن يسمموا أطفالهم ثم يقتلوا أنفسهم إلا عملية تمثل إنهيــار الحضارة الغربية والنصرانيـة الغربيـة ، وبشاعة الرأسمالية أبشع تصوير .

والواقع أن المسؤولية في هذا كله تقع علينا معشر المسلمين ، فنحن أصحاب الكتاب الحق ، وأتباع النبي الخاتم ، التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس مكلفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) [آل عمران : 110] .

ولكن كيف يتم ذلك ؟ وكيف نقوم بذلك و "المنكر" في بلاد المسلمين أصبحت له قوانينه وتحميه الأنظمة ، وتدافع عنه الجيوش ؟ و"المعروف" في بلاد المسلمين مضطهد أهله ، محارب أصحابه ، يستهزأ به في مجالس الذين صنعوا الهزيمة ، وما رأينا على أيديهم إلا الذل والسخيمة . ولكن هذا المنكر والأنظمة التي تحميه ، والقوى التي تدافع عنه هو مرض عارض في تاريخ أمتنا ، عوقبنا به ولن يستمر طويلا ! إن الأمة بدأت تتعافى من المرض ، وتصحو من الغيبوبة ، وتستيقظ على الحقيقة . ولا أعني بالأمة ، كما قلت سابقا ، هذه الجماهير التي تشغلها لقمة العيش عن التفكير ، وليس لديها المقدرة على التحليل ، وهي تأخذ الأمور بظواهرها ، ويسوقها حكامها إلى حتفها وهي تضحك ، وإلى المجزرة وهي تصفق ، وإلى الهزيمة تلو الهزيمة وهي تهتف للزعيم أو للملك أو تقدس الحزب ، وإنما أعني بالأمة : القلة الواعية ، والفئة المؤمنة التي بدأت تعود إلى القرآن ، تستفيق فيضيء لها جنبات دربها . هذه القلة التي عناها الله بقوله ( ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين ) [الواقعة : 13-14] ، وقوله تعالى (ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين) [الواقعة : 39-40] .

فإذا عرفت هذه الفئة أو الثلة كيف تأخذ الزمام ، وتمسك بالخطام ، أعادت لأمتنـا سيرتهـا الأولى ، تصعد المجد من جديد ، تحت راية واحدة ، وقيـادة واحدة ، وتدخل مع الكفر في المعركة المحتومة (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) [التوبة : 33] ، (والله متم نوره ولو كره الكافرون) [الصف : 8] .

وحين يتكشف الأمر وتنكشف الحقيقة سيعرف الناس أن هذه الأحزاب ، وهؤلاء القادة والحكام والعائلات المالكة صنعوا بليل التآمر وفي دهاليز السفارات ، وعلى أيدي المخابرات الأجنبية ، وذلك الحاكم أو الملك الذي يريد من الإسلام أن يقف في وجه الشيوعية والإشتراكية - أيام الشيوعية - بحجة أن الشيوعية إلحاد ، وأن الإشتراكية كفر - وهي كذلك - فإذا طولب بأن يمنع الربا في قوانين بلاده وهو حرام في الإسلام ، أو أن يحرم الخمر والميسر ، أو أن يمنع الإحتكار ، أو أن يمنع الظلم والتبذير والسفه ، قامت أجهزته التي يبطش بها تقول : هذا تدخل من الدين في السياسة !! وإذا طولب بحرب يهود ومعادات من يواليهم ( وهو أشد عداوة لله من الشيوعية ) تمسك بالعقلانيـة والإعتـدال ، وهو بهذا يغالـط نفسه ويهـرب من الحقيقـة ، وهو أن هذا الدين أنزله رب العالمين ليسوس الناس به أنفسهم ، فالدولة في نظر الإسلام خليفة يطبق الشرع .

أقول : حينما تتكشف الحقائق سيندم كثير من الناس من الفئة المؤمنة على الأصوات التي كانوا يرفعونها لتحية هذا الزعيم أو ذاك الملك ، لأنها حينما تنكشف الحقائق فستنكشف فيها صفات من التآمر والخداع والخيانة والتدنيس ، فيصبح هؤلاء الحكام والملوك الذين خانوا ودنسوا نادمين على ما فعلوا ، ولكن ولات ساعة مندم .

ثم تمضي الآيات ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ) [ المائدة : 54 ] ، فيوالي يهود والنصارى وينصرهم على أمته ، فيعتقد بعقيدتهم بأن الإسلام يجب أن يبعد عن الحياة ، وأنه لا مكانة له في الدنيا إلا في مسجد أو زاوية أو طريقة صوفية منحرفة أو إحتفالات في مناسبات دينية ليس لها سند من شرع أو دين أو إحتفالات في موالد وثنية تقام حول بعض القبور تنقر بها الدفوف وتضرب فيها الطبول . فإذا سارت بهؤلاء القوم الذين إرتادوا الغواية إلى نهايتها فيهدد الله سبحانه وتعالى بأنه ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] ، وللمفسرين هنا ثلاث أقوال ، فبعضهم قال : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) : المراد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قتاله للمرتدين ، وقال بعضهم : المراد الأنصار ، وقال آخرون : المراد اليمن من جماعة أبي موسى الأشعري ( الأشعريين ) .
والأقـوال الثـلاثة مـردودة للأسباب الآتيــة :

أولا : الآيات تتحدث عن الموالاة بين يهود والنصارى ، وعن الذين سيوالونهم من المؤمنين ، وأبو بكر - رضي الله عنه - قاتل المرتدين من المشركين . ونزلت الآيات وأبو بكر موجود ، والآية تتحدث عن مستقبل بعيد . " فسوف " للمستقبل البعيد .

ثانيا : نرد على من قال بأن المراد بهم الأنصار : أن سورة المائدة هي آخر سور القرآن نزولا في المدينة ، وكان أهل المدينة قد نالوا شرف النصر . حملوا هذا اللقب العظيم قبل نزول سورة المائدة ، والآيات هنا تتحدث عن مستقبل بعيد .

ثالثا : أما من قال أن المراد هنا اليمنيون من جماعة أبي موسى الأشعري ، فهؤلاء كانوا فئة قليلة إندمجت مع المهاجرين والأنصار ، وينطبق عليها ما انطبق على الأنصار ، ولذلك فإن الإمام المفسر القرطبي يورد قولا بأن الآية (فسوف يأتي بقوم يحبهم ويحبونه) لم تنزل للمؤمنين في عهد نزولها ، وإنما هي آية مستقبلية .

وهنا تأخذ الآيات في وضع صور متقابلة بين الفئة التي ارتدت ووالت يهود والنصارى ، والفئة التي يأتي بها الله لمحاربة يهود والنصارى :

أولا : أحباب الله من المؤمنين الذين سيأتي الله بهم ، صفاتهم أنهم (أذلة على المؤمنين ) [ المائدة : 54 ] ، يرعون المؤمنين حق الرعاية كالأم لإبنها والولد لولده فهم أذلة على المؤمنين ، بخلاف الفئة التي والت يهود والنصارى فهم أذلاء بين يدي يهود والنصارى يتملقونهم ويتوددون إليهم ويخافون منهم ( نخشى أن تصيبنا دائرة ) [ المائدة : 52 ] ، والذلة هنا ليست الهوان ، وإنما الإنقياد كالجمل الذلول .

ثانيا : وأحباب الله الذين سيأتي بهم الله لإنقاذ الإسلام والمسلمين أعزة على الكافرين لا يخافونهم ولا يخشونهم ولا يسعون إلى مراضاتهم لأنهم ربطوا أنفسهم بالله ، وطلبوا العون من الله ، وساروا على درب نبيهم ( صلى الله عليه وسلم ) حينما كان لا يفتر عن ذكر الله وكلما إشتدت عليه الأزمات استغاث بالله . قال تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فأستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) [الأنفال : 9-10] ، فمن كان الله معه كان النصر في ركابه .

ثالثا : صناع الهزيمة ممن والوا يهود والنصارى ، فأعلنوا أنهم لا يريدون الجهاد حرصا على حياتهم الدنيا ، وتمسكا بمناصبهم الفانية ، وإمعانا في إذلال أمتهم وتحديا لله ولرسوله وللمؤمنين . وأما أحباب الله فسيأتون ليعلنوا الجهاد وليقاتلوا الكفار من يهود وغير يهود ، يطرقون أبواب الجنة برؤوس أعدائهم ، ويهود والنصارى يخشون هذه الفئة من أحباب الله ، لأنها ما قاتلتهم في التاريخ إلا وإنتصرت عليهم ، وكأنهم يحسون بقرب قدومها . ولذلك يقول وزير دفاع يهود (وايزمان) :" نريد أن ننتهي من الإسلام الذي يقول للمسلم : إن قتلت يهوديا دخلت الجنة ، إن قتلك يهود دخلت الجنة " . وهذا فهم صحيح للجهــاد من عدو الله . قال تعالى (إن الله إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) [التوبة : 111] .

والأمة الإسلامية ، الجهاد حياتها ، والجهاد تاريخها ، والجهاد ذروة سنام دينها ، وقدرها أن تستمر في المعارك ، تحمل الإسلام ، وتنشر الدين ، فإن تركت الجهاد لم يتركها عدوها تستريح وإنما داهمها في ديارها ، وهي كلما تقربت من الله بتطبيق الإسلام في حياتها كان الله معها ، وكلما بعدت عن الله تركها لنفسها ، فلا تنتصر إلا إذا عادت إليه .

والجهاد لا يجوز إبطاله ، لا يقول بإبطاله إلا كافر أو منافق ، ولذلك يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر وإذا أستنفرتم فأنفروا" .

إن أحباب الله يجاهدون في سبيل الله ، أما المرتدون ممن والوا يهود والنصارى والحالمون بالحلول السلمية ، النائمون على الوعود الدولية ، الواثقون من ( الرأي العام العالمي ) ، فهم يخافون من الجهاد ، ولذلك عمد الرئيس المرتد أنور السادات في إتفاقيته الخاسرة إلى يهود فأعطاهم كل شيء مقابل إلغاء الجهاد .

فلمـا قطعـت جمهورية إيران البترول الذي كان يورده الشـاه إلى دولة يهود، بادر هذا المرتـد (السادات) في إعطـاء البـترول ليهـود ما يمكنهم من ذبح المسلمين به ، وردوا إليـه سينـاء بدون سـلطة له عليهـا ، محرم على جيش مصر أن يدخلهـا ، أما يهود فسيبقون على الحدود تنشىء لهم أمريكا النصرانية الحاقدة مطارات لينتقلوا منها إلى مصر متى يشاءون لا يقف أمامهم جيش ، وأعطى الرئيس ( المؤمن جدا ) السادات والذي سار على دربه الملك حسين وفعل كما فعل السادات فأعطى القدس ليهود ، والمسجد الأقصى ليهود ، ويافا وحيفا والجليل والنقب والسهل والجبل ، بل أعطى الأرض المباركة كلها بما فيه من تاريخ ، ويعلن بلا حياء ولا خجل حين وصوله إلى واشنطن عاصمة الكفر في الأرض : " أن يوم توقيع معاهدة الردة هو يوم تاريخي " . . وقول الملك حسين بعده بستة عشر سنة في واشنطن :"اليـوم أسعد لحظة في حياتي ، ومن أجل هذه اللحظة مات جدي الملك عبدالله" ؟ .

ومن العجيب الغريب أن التاريخ يعيد نفسه في هذه المعاهدة . ففي الحروب الصليبية قام حاكم مصر (شاور) بالإستعانة بالصليبيين وعقد معهم معاهدة كمعاهدة خلفه (أنور السادات) ، وجعل جيش مصر يقاتل مع الصليبيين قوات المسلمين الزاحفة من ديار الشام بقيادة شيركوه وابن أخيه صلاح الدين ، وكان هذا عند قرب نهاية الدولة الصليبية إيذانا بذهاب دولة الفاطميين .

إن الإرهاصات التي بدأت تظهر في ديار المسلمين مقدمة لمجيء أحباب الله من القياديين حتى يقودوا الأمة في معركة الجهاد واستئصال دولة الكفر . هؤلاء القيـاديـون حينمـا يأتون سيكونون موضع استغراب النـاس ، فيجيب الله المتسـائلين عن هـؤلاء الأحبـاب ( ذلك فضـل الله يؤتيـه من يشاء والله واسع علـيم ) [المائدة :54] . وأحباب الله الذين أحبوا الله ورسوله هم الذين يقول فيهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) :"لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" . الله أحب إليهم من أنفسهم ومن أموالهم ومن أولادهم ومن مناصبهم (قل إن كان آبــاؤكـم وأبنــاؤكـم وإخوانكـم وأزواجكم وعشيرتكـم وأمــوال إقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [التوبة : 24] .

ومن المؤلم للنفس المؤمنة أن بعض علماء مصر ممن تولوا ويتولون مناصب رئيسة في الأزهر والأوقاف قد سايروا حاكم مصر المرتد ، وزينوا له عمله . فإن كانوا مرغمين في ذلك فقد أثموا وقاربوا الردة وأصبحوا سبه عار في تاريخ العلمــاء ، من باعــوا آخرتهم بدنيــا غــيرهم فأصبحـوا من سـفلة السـفلة . فقد سـأل عبـدالله بن مبـارك - رحمه الله - وهو من تابعي التابعـين وهو من العلماء المجــاهدين المرابطــين في ديار الشــام ، :" من السفلة ؟ " . قال :" من بـاع دينــه بدنيــاه ! " ، فقالــوا :" من سـفلة السـفلة ؟ " ، قال :" من باع دينـه بدنيـا غــيره " !! وإن كانوا مختــارين في ذلك غـير مرغمـين فقـد والـوا يهود والنصارى وأصبحوا منهم وقد خرجوا من الملة هم وأمثالهم ( فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) [ التوبة : 13 ] .

ثم الولاء بعد الله يكون لرسوله . والولاء لرسوله يقتضي الحب الكامل لشخصه الشريف كما ورد في الحديث :"لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " . والرسول جاء بالوحي المتلو وهو (القرآن) ، وبالوحي غير المتلو وهو (السنة) ، فإذا قام حاكم من هؤلاء الحكام الذين جاءوا بليل فقال :" إني لا إعترف بالسنة وأعترف بالقرآن فقط " . فهو بعمله هذا قد كذب ما جاء به القرآن -حسب زعمه- والله يقول (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) [الحشر : 7] . إذن السنة وحي (قل أنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) [الكهف : 110] ، ولكنه وحي لم ينزل بلفظه ، وهي جاءت موضحة وشارحة لقواعد القرآن الكلية بالتفصيل سواء بقول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو فعله أو تقريره أو نهي منه أو سكوته فهذا من الوحي ( وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4 ] . فالرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الذي حدد عـدد الصـلوات وركوعهـا وسـجودهـا ، ثم صلاها أمـام المسلمين وأمهم بها وقـال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" .

فمن أنكر ركعتي صلاة الفجر الفرض ، فقد أنكر ما علم من الدين بالضرورة ، وبالتالي يكون قد كفر ولو زعم الإسلام . وكذلك بين الرسول في مقادير الزكاة على الأموال ، كذلك تفصيلات الحج ، وكان يقول :" خذوا عني مناسككم " .

ثم يكون بعد ذلك الولاء للمؤمنين ، والولاء للذين آمنوا يقتضي أن لا تناصر غير المؤمنين عليهم كما فعل الرئيس المرتد ( وكذلك بقية الحكام والملوك ومشايخ حارات الخليج الذين والوا الكفار ) . فهو بوثيقة الردة التي وقعها خان المؤمنين ، خان نساءهم وأطفالهم ورجالهم ، خان الذين كانوا يتأملون الخلاص على يديه ، فإذا هو يكتفهم ويرميهم إلى عدوهم يفعل بهم ما يريد (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) [المجادلة : 22] . والسادات إتخذ من يهود والنصارى أصدقاء وأحبابا ، وتخلى عن المؤمنين .

إن أحباب الله الذين والوا الله ورسوله والمؤمنين بطبيعتهم يعبدون ربهم فيقيمون الصلاة في أوقاتها ويؤدون الزكاة في أوقاتها ، فلا يقضون ليلتهم يتبادلون النساء في الرقص كما فعل زعماء الهزيمة ، ويفعل صاحب وثيقة الردة . وهؤلاء حينما يلتزمون جانب الله يصبحون من " حزب الله " ، ويقابلهم " حزب الشيطان " ، فكل من آمن بالله ورسوله وشهد الشهادتين وكفر بأعداء الإسلام ولم يوال يهود والنصارى هو من " حزب الله " ، وأما حزب الشيطان فهم حزب واحد سواء أكانوا عربا لا يؤمنون بالإسلام ، ( وماسونيين ، وقوميين علمانيين ، واشتراكيين علمانيين ، وشيوعيين ملحدين ، ورأسماليين ماديين ، يؤمنون بفصل الدين عن الحياة ) ، فالماسوني الغربي هو شقيق للماسوني العربي ، والشيوعي العربي هو رفيق للشيوعي اليهودي ، واليساري العربي الذي يؤمن بالصراع الطبقي في محاربة يهود ولا يحاربهم كغزاة وككفار هو شقيق لليساري اليهودي ، حتى إذا وصل اليساري اليهودي إلى الحكم في دولة يهود تخلى اليساري العربي عن قتال يهود . يجب أن ينظر إلى حزب الشيطان بنظرة واحدة بلا تمييز ، فالله تعالى يقول ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) [ الأنفال : 73 ] .

ولكن يجب أن نميز بين الكفار ، فكافر قاتلنا وأخرجنا من ديارنا وظاهر على إخراجنا ، فهذا يجب أن نعاديه وألا نواليه ولا نحسن إليه ، كاليهودي في فلسطين وكبريطانيا وأمريكا وروسيا وغيرهم من الكفار ، أما الذين لم يسيئوا إلينا ولم يخرجونا من ديارنا ، ولم يظاهروا على إخراجنا ، فهؤلاء نحن مأمورون بأن نحسن إليهم ، وندفع عنهم الأذى ، ونقاتل في سبيل حمايتهم كالنصارى في بلاد المسلمين ما لم ينقضوا العهد كما فعل الموارنة في لبنان . يقول الله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) [ الممتحنة : 8-9] . وتقتضينا هذه الآية ألا نحترم مصالح الدول التي عاونت على إخراجنا من ديارنا وألا ندعم إقتصادها ، فيهود ليسوا بأكفاء لنا في المعركة - على ضعفنا - ولكن دول الغرب وعلى رأسها أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ، غذتهم بالسلاح والمال ليقتلوننا وليثبتوا في أرضنا ، ولولا هذا المدد لما بقيت دولة يهود في أرضنا هذه المدة .

وبذلك فإن على دول البترول وأثرياء المسلمين الذين يدعمون اقتصاد الغرب ويودعون أموالهم في بنوكه ( وهي بنوك يسيطر عليها يهود ) أن يسحبوها ، وإلا كانوا من الذين خالفوا القرآن ووالوا يهود والنصارى ، وإلا كانوا شركاء في إذلال أمتهم وظالمين لها ولأنفسهم ، وشركاء في دعم دولة يهود ، وشركاء في قتل الأطفال والنساء وإرهابهم وهدم البيوت . وهم شركاء في ضم مساجد يافا وحيفا وبقية الأرض المباركة التي حول يهود كثيرا منها إلى مراقص وحانات للخمور لليهود .

القلة والكثرة

إن الكثرة الكاثرة من الجماهير لا يعول عليها في التغيير ، لأنها لا تعرف ما يضرها وما لا ينفعها ، ولذلك هي حينما تهتف بعقلية القطيع الذي لا يعي ، وحينما ترقص ترقص بنفسية المذبوح الذي لا يدري ، وحينما تؤيد تساق إلى التأييد سوقا . ومن هنا خرجت علينا قضية التأييد المطلق للحاكم ، أو للرأي الذي يريده بنسبة 99 وتسعات مكررة أخرى . أما الذي يقبل بوعي ويؤمن بتبصر فهم أهل الحل والعقد : الفئة القيادية ، الواعية القليلة . هذه الفئة هي التي تتغير فتؤمن بالإسـلام فيغير الله ما بها من جاهليـة . عند ذلك يتغير المجتمـع على أيديها فيتبعهــا الناس .. هذه الفئـة القليلة هي التي تعنيها الآيات الكريمة (وكم من فئـة قليلـة غلبـت فئـة كثـيرة بإذن الله) [البقرة : 249] ، (وقليل من عبادي الشكور) [سبأ : 13] ، (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) [الواقعة : 13-14] .

ولما كان مجتمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) المجتمع الأمثل والأكمل ، فإنا نراه قد ربى أصحابه من المهاجرين والأنصار تربية ربانية ، فطهرهم من أدران الشرك ، وخلص نفوسهم من أوساخ الجاهلية ، وجعلهم نماذج تحتذى فكان هؤلاء هم القادة ، وهم المعلمون وهم النماذج الحية للإسلام الحي ، طبقوه على أنفسهم وعملوا فيما بعد على تطبيقه في أرجاء الأرض ، والناس بعد ذلك كانت تبعـا لهم ، ولكن الناس لم يكونوا على مستوى إيمانهم ولا فقههم ولا بصيرتهم . قال الله تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ) [ الحجرات : 14 ] . ولذلك حين توفي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اهتز المسلمون هزة عنيفة ، حتى أن عمر بن الخطاب أصابه الذهول ، فلم يصدق الخبر وقال :" إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يمت ولكن ذهب يناجي ربه كما ذهب موسى يناجي ربه " . ولكن جاء كبير المؤمنين وشيخ المصدقين أبو بكرالصديق - رضي الله عنه وأرضاه - ودخل المسجد ، فلم تذهله الفاجعة عن الحقيقة باعتباره التلميذ الأول لخاتم النبيين ( صلى الله عليه وسلم ) ، ووقف بجانب المنبر ، وقال :" من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " ، ثم تلا قوله تعالى ( وما محمد إلا رسول قد خلــت من قبله الرسل أفإن مات أو قتـل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئـا وسيجزي الله الشاكرين ) [ آل عمران : 144 ] .

وحين سمع أصحــاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الآية سلموا الأمر لربهم ، وبدأوا يتحملون المسؤولية كاملة ، وتركوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسجى على فراش الموت ، وذهبوا لينتخبوا الخليفة الأول ، حيث لا يجوز أن يبقى المسلمون بدون إمام يرعى شؤونهم ويتولى نشر الدعـوة ، ويرسل الجيوش ، ويطبق أحكام الله في الأرض .

وأما الكثرة الكاثرة من الذين ( أسلموا ) ولم ( يؤمنوا ) فقد إرتدوا على أعقابهم كافرين ، ولم يبق على الإسلام إلا ثلاثة مساجد : مكة المكرمة والمدينة المنورة والبحرين . وظنت هذه الجماهير الجاهلة وقياداتها الجاهلة أن الإسلام قد إنتهى بوفـاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فمنهـم من عاد إلى جاهليتـه كلهـا ، ومنهم من أنكر فرض الزكاة وقال شاعرهم :

أطعنا رسول الله ما دام فينا فيا لعبـــــاد الله ما لأبي بكر
أيورثهـا بكرا إذا مات بعــده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر

وبدأت الفئة القلية المؤمنة من المهاجرين والأنصار بقيادة أبي بكر الخليفة الأول تخوض المعارك الضارية حتى تعود بالجماهير الضالة إلى رشدها ، وتحملها على خير أمرها ، وتمنع عنها نجاسة الشرك من جديد . وهكذا خاض المسلمون المؤمنون الواعون من ( الفئة القليلة ) حربا ضروسا مع الجماهير الكافرة الكثيرة حتى أرجعوها إلى الصواب . ولذلك فإن الذين يقولون إن الإسلام " ديمقراطي " هم لا يفقهون الحقيقة . فالإسلام ليس " ديمقراطيا " ، وليس " إشتراكيا " وليس " رأسماليا " ، والإسلام ليس علما على شيء من هذه الأسماء التي إخترعها البشر . ولكنه دين رب العالمين . ولذلك لو إختارت " الأكثرية " نظاما غير الإسلام ، ودينا غير دين الإسلام ، فإن ذلك لا يقبل منها . ويجب أن تحاربها " الأقلية " - الفئة القليلة المؤمنة - لترجعها إلى دينها وإلى إسلامها . ولذلك تخطىء كثير من الحركات الإسلامية حينما تنتظر أن يتحول الشعب كله أو جله إلى حمل الدعوة ، وأن يحمل الإسلام كل فرد فيه بوعي وبصيرة ، وفهم وتعمق ، لأن إنتظار ذلك يخالف سنة من سنن الله في المجتمعات ، إذ يكفي أن توجد الفئة المؤمنة القليلة لتتحرك بتنظيم ووعي وتخطيط ، فتأخذ زمام المبادرة وتقود الأكثرية الساحقة . وقد توصـل بعض علمـاء الاجتمـاع الغربيين بعد دراسـة أحـوال المجتمعـات البشرية ، إلى أن الذين يفكرون في تغيير أحوال المجتمع هم 16 في المائة من أفراد المجتمع ، والذين ينهضون بالفعل لتغيير مجتمعهم لا تتعدى نسبتهم عن (3.5%) . أما بقية أفراد المجتمع فهي تتبع لا غير . ولقد وري عن الإمام علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- أنه قال :"الناس ثلاثـة : عالم رباني ، ومتعلم على وجه الحقيقـة ، وهمج رعاع يتبعون كل ناعق" . وهذه حقيقــة لا تحتمل التغيير والتأويل ، وهي سنة من سنن الله في خلقه . فحينما أخذ الشيوعيون الحكم في روسيا لم يكن الشعب في روسيا يدري ما الشيوعية ، ولكن الفئة القليلة المنظمة استطاعت أن تتسلم الحكم . وليس الأمر أمر (تطور حتمي) للمجتمعات كما زعم (ماركس) و (لينين) و(أنجلز) ، لأن إستلام الفئة القليلة للحكم نقض لنظرية التطور الحتمي ، والأدوار التي تمر بها تلك المجتمعات -كما يزعمون- إذ لو كان الأمر كما قالوا لأصبحت إنجلترا وألمانيا وأمريكا ودول الغرب دولا شيوعية قبل الإتحاد السوفياتي والصين ، لأنها مجتمعات متقدمة صناعيا ، فهي أولى بالتطور نحو الإشتراكية - حسب نظريتهم - من الإتحاد السوفياتي والصين لأن الأخيرة بلاد زراعية . وعلى كل حال فقد بطلت النظرية الشيوعية كلها وإلى الأبد بتفسخ الإتحاد السوفياتي إلى دويلات .

ولذلك فإن الفئة المؤمنة التي صبرت على دينها وأنار الله بصيرتها فلم تلحق بسراب المبادىء المستوردة ، ولم تصفق للطغاة ، ولم تهتف للمتجبرين ، وصبرت على طهرها ، فلم تنغمس في رجس الجاهلية ، فعبدت الله وحده لم تشرك به شيئا ، وصبرت مع أحكام الإسلام وسط مجتمعات جاهلية . هذه الفئة عليها أن تتقرب إلى الله باستمرار وأن توحد نفسها ، وأن تكثر من البكاء والتضرع والسجود وتلاوة القرآن الكريم وهي تعمل لعل الله يفتح على أيديها .

اليقظة الإسلامية وتنبه الغرب لها

إن إرهاصات عودة الإسلام إلى الحياة أصبحت محل دراسة الباحثين في الغرب وفي الشرق . ففي خلال العقود الثلاثة الأخيرة ضربت الحركة الإسلامية - خصوصا في مصر - وسحقت سحقا ، وظن الظانون أن الأمر قد إنتهى ، وأن الحركة الإسلامية ذهبت إلى غير رجعة ، ولكن سرعان ما خاب فألهم ، وتبين مقدار جهلهم بالعقيدة الإسلامية ، وكيف أنها دائما وعبر التاريخ تصقلها الهزات ، ولا يثني حملتها الإضطهاد ، ويسرع شبابها إلى الجنة والإستشهاد .

ولذلك ، فإن النصارى ويهـود ومن سار في ركابهم من المسلمين ، أصبحوا يدرســون هذه الظـاهـرة ، ويخططـون من أجـل التغلـب عليهـا ، فقد نشرت مجلة ( الدعــوة ) المصريـة في عـددها الصـادر بتـاريخ 31 / ديسمـبر / 1978م تقريرا ( سريا للغاية ) لأحد مستشاري المخابرات الأمريكيــة لضرب الحركــات الإسلاميــة وقتلهـا وتفريغها من مضمونها ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكـرين ) [ الأنفال : 30 ] .

وقـد جـاء في الـتقرير :

((من ريتشارد متشل إلى رئيس هيئة الخدمة العامة في المخابرات الأمريكية المركزية :

بناء على ما أشرتم إليه من تجمع المعلومات لديكم من عملائنا ، ومن تقارير المخابرات الإسرائيلية والمصرية التي تفيد أن القوى الحقيقية التي يمكن أن تقف في وجه ( إتفاقية السلام ) المزمع عقدها بين مصر وإسرائيل ، هي التجمعات الإسلامية ، وفي مقدمتها ( جماعة الإخوان المسلمين ) ، وبناء على نصح مخابرات إسرائيل من ضرورة توجيه ضربة قوية لهذه الجماعة في مصر قبل توقيع الإتفاق .

وفي ضوء التنفيذ الجزئي لهذه النصيحة من قبل حكومة السيد ( ممدوح سالم ) باكتفائها بضرب ( حزب جماعة التكفير والهجرة ) ، فإننا نقترح المسائل التالية كحلول بديلة :

أولا : الإكتفاء بالقمع الجزئي دون القمع الشامل والإقتصار فيه على الشخصيات القيادية التي لا تصلح معها الوسائل الأخرى المبينة فيما بعد ، ونفضل التخلص من هذه الشخصيات بطرق تبدوا طبيعية .

ثانيا : بالنسبـة للشخصيـات القيـادية التي نقـرر التخلـص منهـا ننصـح باتبـاع ما يلي :

أ - تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا ، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلاميـة الفارغـة المضمـون وغيرها من الأعمال التي تستنفذ نشاطهم ، وبذلك يتم إستهلاكهم محليا وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية .

ب - العمل على جذب ذوي الميول التجارية والإقتصادية للمساهمة في المشروعات المصرية - الإسرائيلية المشتركة ، المزمع إقامتها بعد الصلح .

ثالثا : بالنسبة للعناصر الإسلامية الفعالة في أوروبا وأمريكا نقترح :

أ - إستنفاذ جهدهم في طبع وإصدار الكتب الإسلامية مع إحباط نتائجها .

ب - بث بذور الشك والشقـاق بين قياداتهم لينشغلوا بها عن النشاط المثمر.)) .

وهكذا ، فإن الغرب أو العالم الكافر كله ، بوجهيه الرأسمالي والإشتراكي سابقا يخطط لضرب الصحوة الإسلامية ، ويعمل من أجل انحرافها بعد أن فوجىء بها ، بعد أن ظن أن الإسلام في بلاد المسلمين قد انتهى وإلى الأبد ، وأن المسلمين لن يعودوا إلى إسلامهم أبدا بعد أن أغراهم خلال قرنين من الزمن بالعلمانية والقومية ، وبعد أن ضرب من نفسه مثلا لهم ، حيث فصل الدين عن الحيــاة ، وكان هذا جهلا منه لطبيعة الإسلام ، إذ إن الإسلام ليس فيه طبقة كهنوت ولا رجال دين مختصة بفهمه ، وإنما كل مسلم مكلف بفهم الإسلام ، وكل مسلم يستطيع أن يفهم الإسلام ، وكل مسلم فرض عليه أن يحمل الإسلام .

هناك طبقة من علماء الإسلام تتعمق فيه ، وتستنبط من أحكامه ، وتستخرج الحلول لكل مشكلة تجد في الحياة من نصوصه وأحكامه . ولكن هؤلاء العلماء ليس لهم طقوس خاصة ولا ملابس خاصة ولا امتيازات خاصة ، إنما امتيازهم في فهمهم وبمقدار علمهم . والله أكرمهم في عدة آيات وأحاديث (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر : 9] . (إنما يخشى الله من عباده العلمـاء) [فاطر : 28] ولذلك هؤلاء منارات الهدى يجب أن يعاملوا بالتكريم والتبجيل .

والنصرانية ليس عندها جواب لأي سؤال يتعلق بمشكلة الإنسان أو تنظيم الحياة ، أو العلاقة بين البشر ، وإنما هي طقوس أفرغت من معانيها تصادم العقل ولا تقبلها الفطرة ـ ولذلك إنحصرت الكنيسة في زوايا النسيان ، لا تعمل إلا في التبشير في بلاد المسلمين حتى ترجع الناس كفارا إن إستطاعت ، وتغذي أتباعها بالحقد على الإسلام نبي الإسلام ، حتى لا تقبل هذه الشعوب الذكية على دراسة الإسلام بنزاهة ، لأنها إن درسته وهي خالية من صور الحقد والتشويش والتحريف أقبلت عليه وأعتنقته ، ولكن رجال الكنيسة لا يريدون لأتباعهم الخير حتى يستمروا في أكل أموال الناس بالباطل ، وفي الضلال المبين .

الإسلام .. وهل يمكن فصله عن الحياة ؟

حــين إنخـدع بعــض مفكـري الأمـة بـبريـق الفلسـفـات الغربيـة المختلفــة من ( شيوعية ) و ( إشتراكية ) ورأسمالية ووجودية وماسونية وحين رأوا بعض القوميات تتوحد في أوروبا كألمانيا وإيطاليا في القرن الثامن عشر ، فانخدعوا بالقومية وظنوا أن أوروبا نهضت النهضة العلمية حينما أبعدت الدين عن الحياة ، كانوا لا يقرأون دينهم ، ولا يعرفون إسلامهم ، وإنما تربوا على مناهج في مدارس صنعها لهم أعداؤهم ، وفي الجامعات تتلمذوا على أيدي المستشرقين ، وكانوا يقرأون عن الثورة الإصلاحية في أوروبا التي ثارت حينما وقف رجال الدين والكهنوت في وجه التقدم العلمي ، وأعلنوها معركة بين العلم والدين ، وظن بعض شبابنا أن الدين الإسلامي هو نسخة أخرى من الدين النصراني المحرف ، مع أنهم لو قرأوا كيف أن الدين الإسلامي هو الذي أوجد أمتهم ، وقد خرجت به إلى الناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ، وأن كل مجد يفتخرون به هو من نتاج هذا الدين ، وأن كل قائد يعتزون به هو قائد لجند المسلمين ، وأن كل مفكر يشيرون إليه في تاريخ أمتهم هو مفكر إسلامي ، وأن هذا الدين إستطاع أن يزاوج بين الأجناس والألوان لأنه من الإله الخالق ، لا يتعارض مع العلم ولا يرفـض العلمــاء ، لأن العـالم الذي يكتشـف إنما يكتشـف سنة من سنن الله في كـونـه ، وكلما ازدادت معلومات الإنسان إكتشف الجديد من سنن الله ( سنريهم آياتنــا في الآفـاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهـم أنه الحـق ) [ فصلت : 53 ] ، وقوله ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [ الذاريات : 21 ] ، دعــوة للبحــث في تركيـب الجسم الإنساني الذي لا يزال القسم الأكـبر منه مجهــولا بالرغــم من التقــدم العلمي الذي وصل إليه الإنسان ( إن في خلق السمـوات والأرض واختلاف الليل والنهـار لآيات لأولي الألبــاب * الذين يذكرون الله قيـامـا وقعـودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنـا عذاب النـار ) [ آل عمران : 190 -191 ] .

ولذلك لم تحدث معركة بين علماء المسلمين والعلماء التقنيين في أية مرحلة من مراحل مسيرة هذه الأمة ، ورغم أن القرآن الكريم ليس كتاب طب ولا فلك ولا غيرها من العلوم إلا أنه أشار إليها إشارة ليلفت نظر الإنسان إلى بعض مظاهر الكـون ، فإذا إكتشفها الإنسان وجدها كما أشارت إليها الآية .

فلقد توصل العلم الحديث مثلا إلى أن القمر كان مشتعلا كالشمس ، فأنطفأ ، وكانت الآية في سورة الإسراء قد أشارت إلى هذا يوم أن نزل القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا) [الإسراء : 12] . قال إبن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير هذه الآية : " كان القمر مشتعلا كالشمس فأنطفأ " .

ومثال آخر ( أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) [ الأنبياء : 30 ] ، وقد توصل العلم الحديث إلى الحقيقة التي جاءت بها هذه الآية ، وهو أن الكون كان كتلة غازية فانفجرت فتكونت الأفلاك والسماوات والأرض بشكل منظم دقيـق . قال إبن عباس -رضي الله عنهما- :" كانتـا رتقـا ": كانتا متصلتين فأنفصلتا" .

فليس في العلم اليقيني ما يعارض الإسلام أو يمنعه الإسلام ، لأن العلم من خلق الله ، والكون من خلق الله ، فلما أفاق شباب الأمة على الحقيقة وأنهم تأخروا عن ركب الإنسانية يوم أن تركوا الإسلام ، وأن أمتهم إنحدرت من القمة إلى القاع يوم أن تركت الإسلام ، وأن الإسلام غير النصرانية وأن الإسلام وهو الذي يوجد فيهم روح التحدي ، بدأوا يعودون إليه زرافات ووحدانا ، وبدأوا يدرسونه ويتدارسونه ، مما أذهل عدوهم ، فبدأ يضع المخططات لتحويلهم عنه .

وهاهم يهــود الذين إغتصبوا الأرض المباركـة فأقاموا لهم فيها سلطة يزعمون أنها " دولة " وما هي بالدولة ، إذ أن مقومات الدولة ليست عندهم . فهم يعتمــدون في كل شيء على أمريكــا وأوروبا ، فحيـاتهم في يد غــيرهم ، وسلامهـم من عند غـيرهم ، والأمــوال والأسلحة تتـدفـق عليهم من عند غيرهم . . كل هذا يجعـل مقدراتهــم بأيــدي الناس الآخرين ( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) [ آل عمران : 112 ] . والحبل ممتد إلى واشنطن وإلى لندن وغيرها من دول الكفر ، ولا بد أن ينقطع الحبل عاجلا أم آجلا وتعود العداوة بين يهود والنصارى إلى سابق عهدها .

الإسلام يعود

وأخذ يهود يشعرون أن شباب الأمة قد بدأ ينظر إليهم نظرة حقيقية ، وأنهم ليسوا اداة في أيدي الإستعمار فقط ، وإنما هم - كذلك - كفار يقاتلوننا بكفرهم ويريدون استئصال إسلامنا وهدم مقدساتنا وتفريغ أمتنا من وجودها الحضاري لتصبح ألعوبة في أيديهم . وفجأة كانت هذه النظرة ، التي بدأت ترتعد لها فرائص أبطال ( كامب ديفيد ) من يهـود والنصارى ومن الذين والـوهم !! . فكيف حدث ذلك ؟ مع أنهم أنفقوا آلاف الملايين عبر العقود والسنين ، ليطمئنوا على كفر هذه الأمة وعدم عودتها إلى دينهـا !!! والجواب : قوله تعالى ( إن الذين كفروا ينفقـون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبـون ) [الأنفال : 36] .

إن صفحة جديدة قد فتحت في تاريخ الإنسانية ، بدأت تكتب على أيدي هذا الشباب المتعلم المسلم الذي بدأ يرتاد المساجد ، ويلفظ أماكن اللهو ، يتدارس الـقرآن ، ويرفـض قصص اللـهو والجنس ، ويصوم في النهـار القائـظ تقربا إلى ربه ، ويعمل ليكون جنديا من جنود الإسلام ، بعد أن رأى الناس تتكالب على متع النصارى ويهود فهلكت الأمة على أيديهم والكفار وأعوانهم ينتزعون البقعة المباركة من أيديهم وتخرج المؤمنين من ديارهم ومن بيوتهم ومن مساجدهم بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله .

وكان كل ذلك في غيبة الإسلام عن الساحة وإبعاده عن المعركة ، حتى يتمكنوا من إقامة دولة يهود على الأرض التي سار في دروبها الأنبياء وسجد عليها الشهداء ، وارتفع من فوقها الآذان ، وصلى على ترابها المصلون ، وبكى في مساجدها المتضرعون . وما علم يهود أنهم جاءوا إلى هذه الأرض بقدرهم ، وأن الله ساقهم إليها لمصيرهم ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) [ الإسراء : 7 ] . ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون يهود فيقتلهم المسلمون فيقول الحجر والشجر : يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر يهود" .

وهذه الدلائل التي أشرنا إلينا ، تتمثل في ناحية إيجابية وأخرى سلبية ، أما الإيجابة فمظهرها في يقظة الشباب المسلم وعودته إلى المساجد وإلى الإسلام وإلى الكتب التي ألفها علماء المسلمين عبر التاريخ ، والتي تشرح علاج الإسلام لمختلف مشاكل الحياة ، وفي هذا التحرك الجماهيري الذي بدأ هنا وهناك في بلاد المسلمين ؛ في تركيا وفي مصر وفي بقية أنحاء العالم الإسلامي من الجزائر إلى أندونيسيا ، الذي سيستمر حتى يكون سيلا جارفا بإذن الله ، يذهب بالكيانات المصطنعة ، وبالأفكار المستوردة وبعادات الكفر التي قلدناها . . يذهب ذلك كله إلى مزبلة التاريخ لتعود أمتنا أمة واحدة ، الله ربها ومحمد نبيها والقرآن كتابها والكعبة قبلتها وشريعة الإسلام نظامها ودستورها .

أما الناحية السلبية - والتي تدل على الخير أيضا - فهي تتمثل في فشل الحركات القومية في بلاد المسلمين ، وفي فشل الأحزاب والدساتير والأفكار والمواثيق التي أرادوا لها أن تحل محل الإسلام ، ولكن هذا كله كان ينافي الفطرة الإسلامية ، والفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها . وحينما يأتي الله بالفتح أو ( أمر من عنده ) وتتكشف الحقائق فيذهل المؤمنون الذين كانوا يظنون في بعض القيادات خيرا ، ويرون في بعض الحكام أبطالا ، فيقول هؤلاء للمؤمنين وهم في ذهول (أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين) [المائدة : 53] .

إن " الفئة القيادية " التي تريد أن تتصدى لتغيير المجتمع ، يجب أن يكون مثلها في ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وخلفاؤه الراشدون الذين استمروا على تقشفهم بعد أن فتح الله الدنيا عليهم ، فالترف يقتل في النفس حوافز التحدي ، لأن النفس بطبيعتها والجسم بطبيعته يخلد للـترف وينام في النعيم ولا يقبـل التحـدي ، لأن في قبـوله للتحدي ما قد يؤدي به إلى خسران الترف والنعيم ، وبما أن نفسه قد إعتـادت الـترف ، وجسمه قد إستكان إلى النعيم ، يصعب عليه أن يتخلى عنهما ، أما إذا بقي على تقشف وعاش في الحد الأدنى من المأكل والملبس ، فهو يقبل التحدي بسهولة لأنه في تحديه لا يخسر شيئا ، ولا تتغير عليه وسائل العيش وهو لم يقبل الترف ، وكما ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما روته عائشة - رضي الله عنها - أنه كان يمر الشهر والشهران فلا يوقد في بيـوت أزواج النبي صـلى الله عليـه وسـلم النـار ، وإنمـا يعيشـون على الأسـودين ( الماء والتمر ) . فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخلفاؤه الراشدون عاشوا في الدنيا لا لينعمـوا بها ولكن ليصلحوها ويقوموا الناس على درب الحق وعلى الصراط المستقـيم .

وهذه الفئة القيادية من أحباب الله لا تغتر بقوتها ، ولا بقدرتها العقلية والفكرية ، وإنما هي تعيش مع القرآن تتلوه ، متعبدة به ، وهي تقوم في جوف الليل تبكي متضرعة إلى ربها أن يمدها بقوة من عنده ، وفيما بين الليل والنهار لا تفتر عن الذكر ( يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * وأذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) [المزمل : 1-8] .

وكان قيام الليل فرضا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أصحابه ، ولكن أصحابه لا يطيقون ما يطيق ، ولا يقدرون على ما يقدر ، فخفف الله عليهم قيام الليل ، فلم يعد قيام الليل فرضا ، وإنما استعيض عن ذلك بتلاوة القرآن ( إن ربك يعلم أنك تقــوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفــة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فأقرأوا ما تيسر من الـقرآن ) [ المزمل : 20 ] .

وهكذا النفس المؤمنة تكون قريبة من الله . إن النفس التي تتحمل عبء التغيير ومقارعة الأحداث ومصادمة الظلم ومطاردة الظلام ، لا بد لها من غذاء مادي وروحي .. غذاء مادي :"حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه" كما ورد في الحديث ، وغـذاء روحـي بدوام الصـلة مع الله كمـا رود في حديـث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :"أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه " . وهكذا يعين الله أحبابه فلا يكلهم إلى نفوسهم ، ولا يتخلى عنهم ما داموا معه صادقين ، وعلى الحق قائمين .

وهذه الفئة التي إختارها الله أو سيختارها من أحبابه ينتقيها هو فتبرز فجأة قد صفت نفوسها ، وتعلق قلبها بربها ، حينما يراها الناس يتعجبون من أمرها : كيف إختارها الله ؟ ولم وقع عليها الإختيار ؟ فيجيب الله المتسائلين (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) [المائدة : 54] ، فالله حر الإختيار ، محيط بنفوس خلقه ، عليم بخفاياهم (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) [ق : 16] ، فهو يختارها وهو يعلم خبايا نفوسها وحديث قلوبها ومقدرتها على تحمل العبء واستعدادها للقيادة .

ثم تمضي الآيات لتبين للمؤمن من يوالي في الدنيا ، فيكون ارتباطه به لا ينفك عنه بعد أن بينت الآيات أنه لا تجوز موالاة يهود والنصارى ، لأنهم يتآمرون على هذا الدين ، ولا يؤمنون بالله رب العالمين إيمانا صحيحا ، ولا يؤمنون برسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) الأمين وهو خاتم النبيين وآخر المرسلين ، فتقول الآيات : يجب أن يكون ولاؤنا معشر المؤمنين لله (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) [المائدة : 55] . والولاء لله يقتضي الطاعة المطلقة ، والعبودية الحقة ، وأن توحد فيه الألوهية ، وأن توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ألا يشرك مع الله أحدا في العبادة ، فلا يعبد إلا الله ، ولا يسجد إلا لله ، ولا يستعين إلا بالله ، ولا يستغيث إلا بالله ، فإذا صفت في نفسه العقيدة ، فتعلق قلبه بالله ، اتبع أوامره واجتنب نواهيه في كل شؤونه . وتوحد الربوبية هو الإعتقاد بأن الله هو النافع وهو الضار وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت ..

فلذلك فالولاء لله يقتضي نبذ الشرك ، فلا يشرك مع الله إله آخر من بشر أو شجر أو أفلاك أو زعيم أو فكر أو علم أو حزب من هذه الآلهة المتعددة التي عبدها الناس من دون الله ، وكذلك لا يعبد المال كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :"تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد القطيفة" .

وبعد أن نوالي الله جلت قدرته نوالي رسوله ، فنتبع ما أمر به ونبتعد عما نهى عنه ، ونقتدي به في حياته وسلوكه ، وولاء الرسول هو من الولاء لله . يقول الله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) [آل عمران : 31] ، ولذلك فإن الدعوة الكافرة المشبوهة التي قال بها بعض ممن يزعمون الإسلام ونادوا باعتبار القرآن فقط ، و عدم الإعتراف بالسنة النبوية ، وهم يظنون أنهم قد أتوا بجديد ، وهم لا يعلمون أنهم يسيرون على درب قوم سبقوهم بالضلال فنادوا بالقرآن فقط ، وأنهم لا يعترفون بالسنة .. هي دعوى يراد بها هدم الإسلام من أساسه بإنكار السنة أولا تمهيدا لإنكار القرآن فيما بعد .. والسنة هي وحي (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) [النجم : 3-4] . ولذلك فيما يتعلق بالتشريع كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقره ربه على خطئه ، وإن كان هو سيد البشر ، فقد كان يصيبه ما يصيب البشر من الغضب أو الحزن أو الهم ، فيتخذ قرارا لا يقره ربه عليه . فهو ( صلى الله عليه وسلم ) حينما رأى عمه حمزة وقد مثل به المشركون وبقروا بطنه ولاكوا كبده ، غضب لمنظر عمه ، وحـزن على عمـه وهـو الفـارس المقـدام (أسـد الله) وأسد رسوله ، دافـع عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) وعن الإسلام ، فكان طبيعيـا أن يغضب لمنظـر عمـه ، وأن يغضب للتمثيل به وهو سيد الشهداء ، فقال :"والله لئن أظهرني الله عليهـم -يعني المشركـين أو قريـش- لأمثلـن بهـم مثلـة لم تعرفهـا العرب قـط " ، فنزل عليه قول ربه مؤدبا له (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صـبرتم لـهو خـير للصابرين * وأصـبر وما صـبرك إلا بالله ولا تحـزن عليهم ولا تك في ضـيق مما يمكـرون * إن الله مع الذين إتقوا والذين هم محسنون) [النحل : 126-128] . فيصعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر ويقول :"كنت قلت لكم كذا وكذا ، وقد أنزل الله علي هذه الآية" .. ثم تلاها وأعلن للناس أنه سيصبر .

وليس هنــاك علم من العلوم في تاريخ الإنسانيـة كلها تعب عليه أهله في جمعه وتمحيصه وبيان صحيحه من المكذوب على رسول الله ، والقوي من الضعيـف كعلم الحديـث عند المسلمـين حتى تفرع "علم الحديث" إلى عدة علـوم : "علم الحديث" في حد ذاته ، و"علم الرجال" ، و "علم الجرح والتعديل" ، ووضعت شروط قاسية لأخــذ الحديـث ، وألفــت كتـب كثـيرة في جمعـه ، أشـهرها الكتب الستـة المعروفـة ، والله سبحانه وتعالى يقول آمرا المؤمنين (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) [الحشر : 7] . ويقول (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) [الأحزاب : 21] . إذن أحباب الله هم الذين يؤمنـون بالله وما أنـزل من كتب ، وما أرسل من رسـل (قولــوا آمنــا باللـه وما أنزل إلينـا وما أنزل إلى إبراهـيم وإسماعيل وإسـحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمـون) [البقرة : 136] .

ولذلك أي إنسان يكفر بالله ورسوله وبالإسلام فيعتنق مبدأ غير الإسلام أو لا يؤمن بصلاحية الإسلام لتنظيم الحياة ، أو يعتقد أن الإسلام يجب أن يحصر في العبادات وليس له دخل في السياسة ولا في القيادة ولا تنظيم علاقات الناس المختلفة فقد كفر . ويجب أن نقطع العلاقة معه إلا أننا يجب أن ندعوه بالحسنى إن كان من أهل الكتاب ، وإن كان أصله مسلما فقد ارتد ، والمرتد معروف حكمه في الإسلام وهو القتل بعد مناقشته واستتابته ثلاثة أيام .

ولقد خرج علينا المضبوعون بالثقافة الغربية من الحكام عملاء الغرب الدعوة إلى "توحيد المؤمنين بالله" من أصحاب الأديان المختلفة حتى يكونوا جبهة واحدة أمام الإتحاد السوفياتي الشيوعي السابق ، وهؤلاء لا يتورعون أن يقولوا عن يهود أنهم مؤمنون ، وعن النصارى أنهم مؤمنون ، مع أن الإيمان في الإسلام هو الإيمـان بالله وبملائكته وكتبـه ورسله واليـوم الآخر والقضـاء والقـدر خيره وشره من الله تعالى . ويهـود والنصارى غـير "مؤمنين" إيمانا صحيحـا في نظر الإسـلام لأنهم لا يؤمنـون بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ولا يؤمنون بالوحدانية ، فالنصـارى تقول إن المسيح إبن الله ، وهم في نظر الإسلام يجب أن يعتنقوا الإسـلام إن أرادوا أن يكونـوا في عـداد المؤمنين الناجـين .. نعم نحن لا نكرههـم على تـرك دينهـم (لا إكـراه في الدين قـد تبين الرشـد من الـغي فمـن يكـفر بالطاغـوت ويؤمـن باللـه فـقد استمسـك بالعـروة الوثـقى لا إنفصـام لهـا والله سميع عليم) [البقرة : 256] . (إن الذين يكفـرون بالله ورسـله ويريدون أن يفرقوا بـين الله ورسله ويقولـون نؤمـن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بـين ذلـك سبيلا * أولئـك هم الكافـرون حقا وأعتـدنا للكافرين عـذابا مهينا) [النساء :150-151] . لذا لا يجب أن لا نداهن أحدا من غير المسلمين أو نكذب عليه وعلى الله وعلى أنفسنا فنقول عنه إنه "مؤمن" مجاملة من أجل دنيا أو مصلحة أو رزق (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) [الواقعة : 81-82] .. والنتيجة الحتمية لمن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا أنه يصبح من حزب الله ، ويترك حزب الشيطان لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى . والكفار بعضهم أولياء بعض ، مهما تنوعت أسماؤهم ، ومهما كان جنسهم ، ومهما كانت لغتهم ، ومهما كان موطنهم .

هل انتصر اليهود في حروبهم مع المسلمين
في هذا العصر ؟

منذ أن قامت دولة يهود بحبل من النصارى ، وبعون من الحكام العرب الموالين لهم . لم تدخل الأمة معهم في معركة حقيقة ، وإنما كانت المعارك في مجموعها أقرب إلى التمثيل وتنفيذ المخططات . . ففي عام 1948م - عام النكبة الأولى - لم يكن يهود يملكون جيشا بمعنى الجيش في فلسطين ، ولا سلاحا فتاكا ، ولا دبابات ، ولا طائرات ، وإنما كانوا يملكون بعض المصفحات والمدافع الصغيرة والرشاشات ، ولذلك لم يستطيعوا أن يهزموا أهل البلاد . وكان أهل البلاد منتصرين عليهم حتى دخلت الجيوش العربية ـ وكان عددها في ذلك الحين سبعة جيوش - لا أكثر الله من عددهم لأنهم علامة الفرقة - فتغير الموقف ، وبدأت المعارك ، فلما كاد أن يقضى على دولة يهود ، وهي وليدة ، أعلنت الهدنة الأولى ، فقبلها حكام الهزيمة ، هزيمة عام 1948م .

وتواردت الأسلحة على يهود خصوصا من الدول الإشتراكية وعلى رأسها من تشيكوسلوفاكيا السابقة ، التي عاقبها الله الآن فمزقها إلى دولتين ( دولة تشيكا ودولة سلوفاكيا ) . وبدأت الجيوش تتقهقر ، فلما وقعت حكومة مصر في ذلك الحين الهدنة كان قد ذهب ثلثا فلسطين - الأرض المباركة - وبقي الثلث .

وفي عام 1967م خطط لمؤامرة ضخمة وهزيمة بشعة ، فأستولى يهود على باقي فلسطين ، وعلى سيناء وعلى الجولان في مهزلة تاريخية تعرف باسم " حرب الأيام الستة " حيث سلمت الأرض بلا قتال إلا ما كان من بعض الضباط والجند حيث قاتلوا بعقيدتهم وأستشهدوا صارخين إلى ربهم تخاذل وخيانة حكامهم . وكان من ضمن التمثيلية أن يبرز موشي ديان كقائد أسطوري - وكان وزير دفاع يهود - حيث تصورت الدنيا المضللة أن ديان بعبقريته العسكرية وجيشه الذي لا ( يقهر ) ، قد هزم الجيوش العربيــة مجتمعـة ، جيوش الثوريين الحاقدين على الله ، وجيوش الرجعيين الكاذبين على الله .

والواقع أن ديان لم ينتصر في ا لحرب ، والجيوش العربية لم تهزم في الحرب ، وإنما هي تمثيلية مثلت أسند فيها إلى ديان دور البطل ، وذهب ديان في الدنيا التي لا تعرف الحقيقة مثلا للقائد الذي لا يهزم ، وضاعت الحقيقة وسط الوحل السياسي ونفــاق الكتــاب وكذب الصحفيين الذين أخذوا يبحثــون عن أسباب (هزيمة أمتنا) -وهي غير مهزومة- وكانوا ينافقون صناع الهزيمة من الحكام حتى يثبتوهم على كراسيهم . والواقـع أن ديان لا يمكن أن يصبح قائدا تاريخيـا يمـد أجيـال يهـود بالمـدد المعنـوي ، لأن هذا يتنـافى مع الذلة التي فرضهـا الله على يهـود إلى قيــام الساعـة (ضربت عليهم الذلة والمسكنـة وباءوا بغضب من الله) [البقرة : 61] . (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) [الأعراف : 167] .

فنحن - المسلمون - لا نزال نأخذ مددا معنويا من قادتنا التاريخيين . . نعتز ببطولة محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وخالد بن الوليد ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي عبيدة ، ومحمد الفاتح ، وصلاح الدين ، وقطز ، ونفتخر بالأبطال الذين اقتحموا ساحل فلسطين فقتلوا عدوهم على أرضهم ، والذين إحتلوا فندق ( سافوي ) في تل أبيب ، وبكل بطل يسير على درب البطولة يقتل عدوه ويدمر كيانه .

وديان نفسه كان يعرف الحقيقة أنه ليس بطلا ، والخاصة من حوله من قادة يهود يعرفون الحقيقة أيضا أنه لم ينتصر ، وأهل البلاد المحتلة يعرفون الحقيقة أيضا ، كيف رأوا الجيوش العربية تولي الأدبار في عملية تسليم وتسلم ؟! وإلا فأي عاقل يعقل أو أي إنسان يصدق أن مليونين من البشر ( الأذلاء ) يهزمون مئة وخمسين مليون أو أكثر في ساعة من الزمن !!! .

ولو قدر لديان أن يموت أو يقتل عقب سنة 1967م لبقي أسطورة تمد يهود بالمدد المعنوي ، ولكن الله جلت قدرته أبى عليه الموت أو القتل حتى لا يستمر أسـطورة في تاريخ يهـود ، فيبقى إلى عام 1973م ، فخـاض جند المسلمين معركة ( وهي وإن كانت مخطط لها أن تصل إلى ما وصلت إليه ) ، ولكنها كانت معركة لم يكن يعرف الجند فيها أنها مؤامرة ، أذاقت يهود الأمرين لأن شعار المسلمين الخالد ( الله أكبر ) دخل فيها وبدأت أجهزة الإعلام تتكلم عن الشهادة والإستشهاد والجنة وما أعد فيها من نعيم ، وبدأ الذعر يدب في يهود ، وانهارت أعصاب ديان ( البطل الأسطوري ) ، واتصل ديان في اليوم الرابع من المعركة برئيسة وزراء العدو ( غولدا مائير ) يخبرها أن البيت الثالث ( يعني الهيكل الثالث ) بدأ ينهدم . وانكشف القناع عن وجه ديان ، وأنه لم يكن قائدا عبقريا حتى ولا في مستوى القادة العاديين ، وسقطت أسطورة ( البطولة ) عنه ، عند قومه أولا وهذا هو المهم ، حتى لا يبقى أسطورة عندهم ، وأتهموه بالخيانة ، وأتهموه بالتقصير ، وطرد من منصبه ، ولولا أنه من الفئة الحاكمة في دولة يهود لقدم إلى المحكمة بتهمة التخاذل والتقصير .

ويهود ممنوعون من النصر على المسلمين وعـلى غــير المسلمين بنـص القرآن لأن الله يقول (ضـربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) [البقرة : 61] ، والذليل والمسكين لا ينتصر ، لأنه مكسور القلب ، فاقد الهمة ، والله يقول (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) [الأعراف : 167] .. والمفروض عليه العذاب إلى يوم القيامة من الله لا ينتصر . وأما الآية القطعية في عدم نصر يهود ففي سورة آل عمران (لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) [آل عمران : 111] ، فهم يدمرون ويرهبون ، ولكنهم لا ينصرون ، ولقد جاءت معركة بيروت الأخيرة عام 1982م لتكشف حكمة قرآنية مذهلة ، فبالرغم من أن يهود حشدوا كل جيشهم في المعركة مع أسلحة أمريكا والغرب ، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا بيروت خلال ثمانين يوما من القصف والحصار . وبذلك عرف الناس أن الجيوش العربية لم تحارب منذ عام 1948م ، وأن فلسطين وسيناء والجولان سلمت تسليما .

ولو أن الحكام الذين والوا يهود والنصارى لم يوقفوا تقدم الجيوش ولم يمنعوها أن تقتحم أرض سيناء وأرض فلسطين لأنتهت دولة يهود ، وبان أن المقصود من المعركة هي خطة لتحريك القضية بدأت بالزيارة الملعونة المشؤومة التي قام بها حاكم مصر (السادات) إلى القدس ، وإنتهت في ليلة مشؤومة أخرى بتوقيعه على وثيقة الإستسلام بتاريخ (26/مارس/1979م) .

والسادات بمعاهدته هذه ظن أن يهود سيعطونه سيادة كامله على سيناء بعد أن قدم لهم الأرض المباركة كلها والقدس والأقصى رشوة ، ولكنه كان مخدوعا فالله أصدق منه حين يقول (أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا) [النساء : 53] .. فسينقض عهده معهم أو عهدهم معه فريق آخر يأتي للحكم ، وإن نقض يهود للعهود هو من أسباب لعنة الله عليهم (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية) [المائدة : 13] ، ولذلك فلن يتورعوا في احتلال سيناء مرة اخرى وبسهولة لأنها منزوعة السلاح حسب الاتفاق أو المعاهدة .

ولذلك ليس هناك مجال لمعاهدة أو صلح أو تعايش مع يهود إلا أن يعيشوا في ظل دولتنا ، فالأمر أعمق وأخطر وأكبر مما يتصوره الجهلة من الحكام والساسة وأصحاب النظريات المنهارة من الماسونيين يمينا إلى (الشيوعيين) يسارا ، وما بينهما من دعاة القومية ومهازيل السياسة العالمية الذين يظنون أنهم يخدمون أمتهم وما رأت أمتهم على أيديهم إلا البوار والهلاك . وستمضي أمتنا في طريقها إلى النصر رغم كل الخيانات لأنها بدأت تعود إلى اسلامها ، وبدأ اسلامها يعود إليها، وبدأ التكبير (الله أكبر) يتجاوب صداه على إمتداد العالم الإسلامي كله ، وبدأت أمتنا تشعر برياح العز ونفحات الإيمان وانبثاق فجر النصر بعد ظلام الهزيمة الدامس ، وفرقة القومية المظلمة ، وسيطر الكفر الذي ظن أنه قتل فينا كل روح للمقـاومـة . وفجأة ، فإذا العمـلاق يتململ ، وإذا النـور يشع ، وإذا كل شيء يتغير ، وتبدأ من فلسطين في إنتفاضتها الإسلامية ، وفي الجزائر بتيارها الإسلامي الجارف بقيادة (جبهة الإنقاذ الإسلامية) والتي تسعى بكل قوة وثبات لإعادة خلافة الإسلام الراشدة .. وهكذا في بقية العالم العربي والإسلامي بدأ ينتشر الضياء ويولي الظلام في معركة شرسة حيث يدافع الشيطان عن مواقعه وحكام التجزئة عن مغانمهم ومكاسبهم .

حتمية النصر من خلال آيات أخرى

كان هدف الكافر المستعمر أن يوقع اليأس في قلب الأمة الإسلامية ، ويقنعها بأنها قد فقدت مقومات النصر ، وأنها لا تصلح للحياة . ولقد استطاع أن يبعد الدين عن حياتها ، وعمل ذلك خلال قرنين من الزمن بعد أن استيقظ من هزيمته في الحروب الصليبية ، وعرف أن سر نصر هذه الأمة هو الإسلام ، فأراد أن ينزعها من الإسلام أو ينزع الإسلام منها . وكان الغرب في هذا الوقت قد بدأت فيه النهضة الصناعية التي قلبت وسائل الحياة المادية عنده ، وأعطته من أسباب القوة والمنعة الشيء الكثير . وكان العقل الإسلامي في هذا الوقت قد أصابه الجمود وأغلق باب الإجتهاد ، وتولى قيادة الأمة أناس يغلب عليهم الجهل ، وعلماء الأمة تاهوا في الخلافات المذهبية والمحاككاة اللفظية ، والانتصار لآراء الأئمة والمذاهب الفقهية بالحق أو الباطل ، وضعفت اللغة العربية التي هي وعاء الإسلام ، ولم تصبح هي اللغة الرسمية ، وغلب عليها السجع والمحسنات اللفظية ، والكلام الممل والأسلوب الهابط . وصاحب ذلك خرافات وأباطيل نسبت إلى الإسلام زورا وبهتانا . مما سهل على الغرب أن يغزو الأمة وهي في هذا الخمول الذهني والإنحطاط الفكري ، إذ بعدت عن إشراقة الإسلام ، وفصاحة القرآن ، والنظرة الصائبة ، والفكر العميق الذي لازمها في القرن الأول والثاني والثالث وإلى حد ما في القرنين الرابع والخامس من الهجرة ، ثم تفككت بعض أجزائها بعد ذلك ، واستقل بعض ولاتها ببعض أجزائهـا ، وصـارت دولا ودويلات ، وانفصل مغرب الأمة عن مشرقهـا في كثير من الأحيـان . وأمتنا لا تنتصر إلا إذا فكرت بعمق ، وأخذت الإسلام بصـدق ، وفهمت القرآن بإشراق روحي ، فلما كانت كذلك استمرت منتصرة لم تتقهقر ، متقدمة لا تتراجع ، واثقة بالله ربها ، وأنها خير أمة أخرجت للناس .

فلما ابتعدت عن الفكر المستنير ، وأخذت تهبط متدرجة حتى وصلت إلى الحضيض ، إستطاع عدوها الكافر أن يثب عليها أول مرة في الأندلس ، حيث ملوك الطوائف وعنعنات الجاهلية المتمثلة بالقيسية واليمنية والتي أخذها العرب معهم إلى أوروبا ، فذهبت منها الدرة الثمينة ، والبلاد التي أشرق فيها نور الإسلام يوما يشع على العالم النصراني من حوله يضيء جنبات فكره ، فلما كان العصر الحديث، وهي في خمولها وانحطاطها وتدهورها ، استطاع عدوها أن يسيطر عليها ويمزقها ويستذلها ، وعاشت في دويلات أو شبه دويلات ، وفي إمارات تشبه الحارات ، وعدوها يخطط للقضاء على حضارتها حتى وصلنا إلى أن التحدث في الإسلام أصبح معيبا وأن الذي يتحدث عن الإسلام في حديثه يتحدث عنه على استحياء خوفا من أن يتهم بالرجعية أوالتخلف أوالجمود .

ورأينا علماء أو ما يشبه العلماء يسيرون في ركاب الكافر ، يعطيهم بعض حظهم من الدنيا فتاتا لا يغني ، ومناصب ليس لها معنى ، وحصر الدين في المساجد مع مراقبته لها ، وخطط للدين في المدارس وسماه التربية الإسلامية ، مع أن الإسلام يربي الفرد وينشىء الدولة ، ويصنع الحضارة ، وفيه لكل مشكلة من مشاكل الحياة حل ، وركب الشباب - الذين رباهم الكفر في مدارسه - موجة القوميات ، ومشوا تحت شعار العلمانية زاعمين أنهم بأمتهم سينهضون ، وقد ترك الإستعمار بلادهم بعد أن مكن لهؤلاء الشباب ، وسلمهم السلطة ، وقد انضووا تحت ستار أحزاب كافرة ، أو قادة انقلاب للحكم مغتصبة ، تؤلف لها أحزابا وجماعات من المنتفعين والمطبلين والمزمرين . ومن العجيب الغريب أن هؤلاء الشباب ، والأحـزاب التي ألفـوها والانقـلابات التي صنعت لهـم كلهم ينـادون بالوحـدة - شـعارا - وكل يعمـل لهدمهـا خوفــا على كرسيـه أو منصبــه ، وحتى لا تـذوب الحـدود والسدود . وضـاعـت فلسطـين في مرتين : المرة الأولى في عـام 1948م في ظل الحكـام التقليديين الرجعيين الذين نصبهم الاستعمار مباشرة بعد أن تعاونوا معه في القضاء على دولة الخلافة وفي الرضا بالتجزئة وفي القبول بالكيانات الهزيلة وفي ألا يعود الإسلام إلى الحياة وأن ينزوي في المساجد أو التكايا أو الزوايا .

وفي المرة الثانية في عام 1967م في ظل حكم الثوريون الذين جاءوا بإنقلابات عسكرية يركبون متن " القومية " و " الاشتراكية " . وفي هذه المرة ليست قومية الرجعيين وإنما قومية ثورية ، مشتطة قي ثوريتها ـ حامية شعاراتها ، ملتهب حماسها ، تزمجر وتولول : ويل للاستعمار ! ويل ليهود ! ويل للرجعية التي تعيش في القصور وفي الفجور ! وفجأة تأخذ هذه الفئات تبحث عن قصور الرجعيين الذين سبقوهم في موالاة يهود والنصارى ، فسبقتهم في فجورهم وفي نعيم قصورهم ، وفي أساطيل سياراتهم وفي تنوعها ، حتى إذا لم تجد القومية ما يغني لتنظيم شؤون الحياة لم تعد إلى ذاتها الحضارية ، وإلى عقيدة أمتها ، وإلى الإسلام تستغيثه ليحل المشكلة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وكل مشكلات الحياة . وأغلبها جاهل بالإسلام لا يعرفه ، وكلهم حاقد على الإسلام لا يريده ، لأن عقولهـم ونفوسهم صنعت في مطـابخ المخابرات الشيوعية ، فأخذوا يتجهون إلى " الاشتراكية العلمية " يلبسونها القومية أو يلبسوها للقومية . والاشتراكية العلمية تعني بكل بساطة إنكار وجود الخالق وقبول نظرية التطور الحتمي في المجتمع والتاريخ والإنسان والحيوان وكل الموجودات . ولا يستحون بعد ذلك أن يقولوا : إنها اشتراكية عربية ، والذي إخترع الاشتراكية يهودي ألماني وروسي (ماركس ولينين)، ويضاف إليهما أنجلز . والحقيقة أن هؤلاء الثوريين لا يفقهون حتى الماركسية ، وإنما يريدون أن ينفلتوا من كل القيم ، ومن كل خلق ليعيشوا عيشة بهيمية .

وكانت حركات إسلاميــة قد برزت في منتصف هذا القرن ، أو قبل ذلك بقليل ، وأخذت تكون خطرا على كيان يهود ، فكان لا بد من سحقها على أيدي الثوريين لتثبيت إسرائيل دولة . وأصبح التدين في بعض الأقطار العربية الإسلامية جريمة يعاقب عليها ، وأصبح الإيمان مطاردا أصحابه ، وأصبح كثير من المؤمنين يخفون إيمانهم .

وتوالت الهزائم على أيدي الثوريين ولم يكونوا أحسن حظا من الرجعيين ، وكانت القومية الثورية صنو القومية الرجعية ، نافستها في كل شيء : في العمالة (وإن كانت عمالة الأولى واضحة ، والثانية تتستر وراء الشعارات وشتم الاستعمار وخداع الجماهير وتضليل العامة) . والطرفان يتفقان في خدمة الاستعمار ، ولكن بإسلوبين مختلفين . فالقوميون التقليديون يريدون فصل الدين عن الحياة ، وأغلبهم من الماسونيين الذين لا يؤمنون بدين إلا دين الماسونية ، ويريدون الإسلام أن يبقى على رباهم وزناهم وخمرهم وميسرهم وعمالتهم وتسليمهم لأوطانهم ، وبعد ذلك فليصل من يشاء أن يصلي ، وليذهب إلى المسجد من يشاء أن يذهب إلى المسجد ، وليصم من يشاء أن يصوم ، وأما السياسة فليست من صناعة الدين ولا أهل الإسلام، والعلماء الذين يطلق عليهم (رجال الدين) لا يصح أن يتدخلوا في السياسة ، وهم بذلك يجعلون من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) راهب كنيسة أو شيخا في زاوية تتدلى في رقبته سبحته ، يتمتم بالكهانة ولا يعتني بشــؤون الحيــاة ، ويجعلون من القرآن العظـيم كتــاب أدعيــة وأحجبة ، يتـلى على أمواتهــم وعلى المقـابر ولا شـأن له بالحيـاة ، وبعـد ذلك يزعمــون أنهم "مسلمون" ، ولا أدري كيف يكون هؤلاء من المسلمين !! .

وأما القوميون " الثوريون " فهم يرفضون الدين أصلا ، ولكنهم يبقون على بعض مظاهره خوفا من نقمة العامة ، ومن ثورة " السفهاء " في زعمهم ، فهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وما أجمل آيات القرآن وهي تصفهم وهم متلبسون في الجريمة ، فانظر إليهم تلاحقهم آيات القرآن ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين* يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون * وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون * وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون * أولئك الذين إشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [البقرة : 8-16] .

هذه الآيات تصف الفريقين القوميين التقليديين والقوميين الثوريين وإخوانهم في الغي يمدونهم من الماسونيين والإشتراكيين والشيوعيين والرأسماليين ، فما رأت الأمة إلا الهزائم على أيدي هؤلاء وهؤلاء ، ولم تر الخير على أيديهم قط . لم تر إلا التعذيب والتخويف وقتل المروءة والرجولة تمهيدا للعدو حتى يأتي ويستلم ، وقد أتى واستلم في ظل هؤلاء وهؤلاء ، استلم فلسطين كلها وسيناء كلها والجولان أكثرها ، أصاب الأمة اليأس أو ما شابه اليأس ، كفرت بهم ولكنها خافت منهم ، تلعنهم ولكنها تبتسم في وجوههم ، تدعو عليهم ولكنهم يسوقونها لتصفق لهم . وأخذت الفئة القليلة المؤمنة تتطلع إلى الله وتنظر في القرآن ، فإذا آيات من القرآن تعطي الأمل القطعي والنصر الآتي . الآيتان من سورة الأنفال تدل الأولى منهما على النصر والغلبة للمسلمين في النهاية بشرط أن يكون قتالهم قتالا إسلاميا ، وتحت شعار الإسلام ، لا تحت شعارات الكفر، ولا مستظلين برايات الكفر (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) [الأنفال : 36] .

ألا ترى إلى الغرب النصراني وقد أنفق الملايين على إنشاء المدارس والجامعات والنوادي والمستشفيات ، ثم أنفق الملايين على تثبيت دولة يهود في أرض الإسلام ، فأعطوها لقمة العيش وأعطوها كل سلاح مدمر ، وهم يباركون كل ما تقوم به ويعلنون صباح مساء أن (دولة يهود قامت لتبقى) ، ولكن هناك شعور منهم خفي أنها لن تبقى . وفجأة فإذا الأموال التي أنفقوها تذهب سدى ، وإذا الشباب الذين تربوا على مناهجهم وفي مدارسهم وفي جامعاتهم ينقلبون عليهم ويعادونهم عداء حقيقيا ، فلا يحملون فكرهم ، وإنما يحملون فكر أمتهم ، فعادوا إلى الإسلام إلى نقطة البدء في الصراع حيث المعركة الحقيقية عبر التاريخ بين قوى الكفر وقوى الإسلام الذي يمثله أنبياء الله المتتابعون منذ آدم عليه السلام إلى نبينا (صلى الله عليه وسلم) ، خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله الله رحمة للعالمين وإلى أهل الدنيا أجمعين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والله خير الوارثين .

وشعر الغرب وهو يعرف الحقيقة أن دولة يهود التي أقامها في أرض الإسلام لا يمكن أن تستمر وليس لها صفة الدوام ، ولو أعلن على الملأ بين الحين والحين أنها قامت لتبقى ، لأن أهل المنطقة عقيدتهم ترفض هضم دولة يهود ، وقرآنهم يمنعهم من أن يسلموا أرضهم ليهود ، ونبيهم (صلى الله عليه وسلم) حذرهم من يهـود وبشرهم بقتلهـم . ولذلك أهل المنطقـة لم يهضمـوا هذه الدويلة على الرغم من أن أكثر الحكام من الماسونيين وكثير منهم من اليساريين وجلهم من الرأسماليين، والماسـونيـون هم صناعة يهودية . قد اخترع يهـود دين (الماسونية) يجذبون إليه ويدخلون فيه شخصيات عالمية ومحلية من حكام واقتصاديين كبار وسياسيين ومحامين ..الخ ليعاونوهم على إعادة بناء الهيكل مكان المسجد الأقصى . وبالفعل فقد سلموا لهم الأقصى عام 1967م . وإني لأذكر تلك الليلة المباركة (ليلة 27 من رمضان) ليلة القدر في آخر رمضان قضيته في القدس عام 1967م - وقد صلينا تلك الليلة في المسجد الأقصى مع عدد كبير من المسلمين ، فجلست إلى الناس وحدثتهم بعد صلاة التراويح لأكثر من ساعتين تعرضت فيها للحركات الفكرية والسياسية التي تسود بلاد المسلمين ، فلما جاء دور الماسونية في الحديث ، قلت إنها جمعية يهودية تسعى لإعادة بناء الهيكل ، وأن أكثر حكام هذا البلد من الماسونيين ، وسيسلمون المسجد الأقصى ليس خيانة فقط وإنما عقيدة ليقيم يهود عليه الهيكل .. وقد كان !!

واليساريون من الحكام ومن الأحزاب ومن المنظمات لا يحاربون يهود حرب تحرير ، ولكنهم يحاربونهم في فلسطين (حربا طبقية) حتى إذا استلمت (الفئة العاملة) الحكم هنا وهناك ، لم تعد هناك مشكلة عند اليساريين إذ إن مصلحة الطبقة العاملة في كل الدنيا واحدة ، حسب زعمهم . وأما الرأسماليون الربويون الاحتكاريون الذين يفصلون الدين عن الحياة ، فهم يريدون من الأمة أن تعترف بالأمر الواقع ، لأن مصالحهم الربوية الاحتكارية مرتبطة بمصالح يهود الربوية الاحتكارية ، والحرب قد تدمر قصورهم وتمحق رباهم ، ولذلك هم يدعون إلى العقلانية ، وبالرغم من إخلاص هؤلاء لدولة يهود ، فإنهم لن يسطيعوا تثبيتها دولة .

وأما الآية الأخرى من سورة الأنفال ، فهي تجيب على سؤال كبير يطرحه الخائفون والمرجفون والمتشككون بنصر الله . والذين يدعون إلى " العقلانية " ، فيتساءلــون : كيف تذهب دولة يهـود ومن ورائها الغرب وما يملك من أسلحة تدمير ، والشرق بما يملك من إرهاب وتخويف ؟ وإن كان الشرق يدعمها دعم المنافقين ، فهو يمدنا ببعض السلاح ، ويمدها بالرجال . فالله سبحانه وتعالى يجيب هؤلاء الخائفين الذين يخافــون على الحياة الدنيا فيقول (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) [الأنفال : 59] .. لا تخافوا ولا تهتموا ، إن الأمر يتعلق بي ، فكونوا معي وإني إذا أخلصتم في عبادتي أوفقكم إلى طريق العمل ، وأتولى تدمير عدوكم . ألم تر كيف يضرب الله الأمثال لنا بين الحين والحين فيغرق عدة ولايات أمريكية بالفيضانات ويوقف الحياة في أمريكا بالثلوج والصقيع ! ولقد ضرب لنا مثلا قبل عام من الزمن حينما قطع التيار الكهربائي عن أعظم مدينة في أمريكـا أو في العـالم (نيويورك) ، وكيف أنها دمرت في تلك الليلة ونهبت وسرقت؟ وفي (الإتحاد السوفياتي السابق) في عام 1981م إنخفضت الحرارة إلى درجة توقفت معها وسائل التدفئة ، وتعطلت الحياة ، وأصبح داخل الثلاجة أدفأ من خارجها . ولقد سلط الله على أمريكا خاصة والغرب بشكل عام مرضا جنسيا جديدا ، ليس الزهري ولا السيلان ، وإنما ( الإيدز "AIDS" ) ، وهو يكاد أن يتحول إلى وباء في أمريكا ، فأمريكا الآن في قلق ، وعلماؤها وأطباؤها في اجتماع دائم لحل مشكلة هذا المرض الذي سيقضي على زهرة شباب أمريكا وأوروبا . ولقد وصل الإيدز إلى دول الخليج ليقضي على الفاجرين منهم الذين ملأوا الأرض فسادا وفجورا حتى أصبحوا مضرب المثل في الإنسان البهيمي الحقير (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)[الأنفال : 30] .

ولقد بدأت تباشير نصر الله في التحول العجيب ، والزلزال الرهيب الذي قام به شعب فلسطين المسلم ، بانتفاضتة العجيبة ، والجزائر بتياره الإسلامي الجارف، وانتعشت الآمال في الأمة ، ورأت كيف يفعل التكبير والإستغاثة بالله العلي الكبير ، وسقط فكر الثوريين والرجعيين ، وصدق الله العظيم (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) ، ولكن الله يمهل ولا يهمل ، والأمة حينما وصلت إلى حالة اليأس إلى سنة من سنن الله مع المسلمين إذ حين تصل الأمة إلى حالة اليأس يأتيها نصر الله (حتى إذا إستيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) [يوسف :110] ، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [البقرة : 214] .

وأكثر ما يمثل نصر الله في حالة الاستيئاس في غزوة الأحزاب (الخندق) ، حيث جاءت قريش بعشرة آلاف مقاتل ، رابطوا أسفل المدينة ، ولم تكن الجزيرة العربية تعرف مثل هذا العدد من الجيوش ، ونقض يهود العهد والميثاق الذي كانوا قد عاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه بأن لا يكونوا مع أعدائه ، وحيث برز المرجفون في المدينة من المنافقين الذين كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر ، فوقع المسلمون بين أعداء ثلاثة : عدو أسفل منهم ( قريش ) ، وعدو من فوقهم ( يهود ) ، وعدو فيما بينهم ( المنافقون ) ، فأخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالأسباب المادية التي لا بد منها في المعركة ، فحفر الخندق بإشارة من سلمان الفارسي ، وكان وضع المسلمين في المدينة حرجا حيث الطعام قليل ، واستولى الخوف على المسلمين حيث الحراسة المستمرة ليلا ونهارا ، وحيث بلغ الجوع بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبعض أصحابه أن ربطوا الحجر على بطونهم . وفي هذا الموقف الحرج الشديد الخطورة على الإسلام وأهله ، وعلى أهل المدينة - الذين هم جل أهل الإسلام في ذلك الحين - . وبعد أن أوقع النبي صلى الله عليـه وسلم الخـلاف بين قريش ويهـود في مهمـة قـام بهـا نعـيم بن مسعود (وكان قد أسلم ولم يعلن إسلامه) .. فقال له الرسول (صلى الله عليه وسـلم) :"ثبط عنا يا نعيم" . فقام نعيم بعملية إيقاع بين يهود وقريش ونجح في ذلك . وكان المسلمون قد ضاقوا ذرعا بالحصار وبلغوا اليأس . حيث أن المسلمين لا ينتصرون إلا إذا بلغوا حالة الاستيئاس (حتى إذا إستيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا) [يوسف : 110] . ويصور الله حالة اليأس هذه في سورة الأحزاب (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك إبتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) [الأحزاب :9-12] .. فنصرهم الله ، إذ أرسل جنودا لم يروها ، وأرسل ريحا عاصفة تكفأ القدور في جيش قريش وتهدم الخيام ، ويصيب قريش الذعر وقبل أن يأتي جند الله تظهر الفئة المنافقة الشماتة ، وتعلن أن وعد النبي (صلى الله عليه وسلم) للمسلمين بفتح مشارق الأرض ومغاربها كان نوعا من الغرور ، وأما الفئة المؤمنة فأيقنت بنصر الله في هذا الحصار الشديد والمعاناة القاسية .. فقد اعترضت صخرة فئة من الصحابة وهم يحفرون الخندق ، فأخبروا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك وطلبوا من الرأي :"ماذا يفعلوا ؟" ، فنزل (صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق وأخذ المعول بيديه الشريفتين فضرب الصخرة ضربة فلق فيها ثلث الصخرة وخرج منها شرر أضاءت ما بين لابتي - أطراف - المدينة فكبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكبر الصحابة لتكبيره ، وضرب الضربة الثانية فأنفلق الثلث الثاني من الصخرة وخرج منها شرر أضاء ما بين لابتي المدينة فكبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكبر الصحابة لتكبيره ، وضرب الضربة الثالثة فأنفلق الثلث الأخير وانتهت الصخرة وخرج منها شرر أضاء ما بين لابتي المدينة فكبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكبر الصحابة لتكبيره ، ثم خرج (صلى الله عليه وسلم) من الخندق فسأله أصحابه عن الشرر والتكبير وكان السائل حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي - رضي الله عنهما - ، فقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) :"هل رأيتم ما رأى حذيفة ؟" ، قالوا :"نعم" ، فقال (صلى الله عليه وسلم) :"أما الضربة الأولى فقد أضاءت لي منها قصور الحيرة بأرض الفرس فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأما الثانيـة فقد أضـاءت منها قصـور الحمر بأرض الروم فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ، وأما الضربة الثالثـة فقد أضاءت لي منهـا قصـور صنعـاء اليمن كأنهـا أنيـاب الكـلاب فأخـبرني جبريل أن أمـتي ظـاهرة عليها .. أبشروا يبلغكم الفتح .. أبشروا يبلغكم الفتح .. أبشروا يبلغكـم الفـتح " . .

ألا ترى أن المنافقين في هذا العصر هم الذين أشرت إليهم سابقا من أقصى اليمين الماسوني إلى أقصى اليسار الشيوعي ، وما بينهما من هذه الأحزاب والمسميات التي تشكك في نصر الله والتي تدعوا الأمة إلى اليأس والقنوط ، والتي تشكك في الآيات والأحاديث تدعو الأمة لأن تستسلم لعدوها ، حيث أن وضعها ميئوس منه ، وأنها لا تقوى على المقاومة . . والذين يتبنون هذه الآراء في الأمة هم حكام التجزئة وأعوانهم من المنتفعين الذين يرون نصر الأمة بالإسلام ضياعا لإمتيازاتهم وتذويبا لدويلاتهم ، وعودا للمجد وللنصر وللعزة المؤمنة .

وأما الفئة المؤمنة ، على قلتها ، فهي ترى أن النصر آت وأن وعد الله قائم (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) [الأحزاب : 22] .

ونحن اليوم نرى أن قتال يهود هو وعد لنا قبل قيام الساعة في آيات الإسراء وآيات المائدة ، وفي أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فهو وعد من الله ورسوله زادنا إيمانا بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام كله ، وأننا على حق ، وأن الفئات المنافقة الكافرة هي التي أوصلتنا إلى الهزائم ، وأن نصر الله آت لا ريب فيه ، وأن جند الإسلام - وليس جند القوميات ولا جند اليسار ولا جند اليمين الرجعي - هو الذي سينتصر ، لأنه سيقاتل تحت راية "الله أكبر" ، لا تحت راية العنعنات الجاهلية ، ولا شعارات الأيدلوجيات التي نرفضها لأننا مسلمون ، سيرد الله تآمر الغرب الصليبي على أعقابه يوم يرون دويلتهم التي أقاموها وقد أصبحت من مخلفات التاريخ ، يبحث علماؤهم عن الأسباب التي أدت إلى زوالها ولا يعلمون أن هذا وعد الله تحقق في زوال دولة يهود ، كما تحقق في زوال دولة الصليبيين قبلها ، ولكن بأسرع مما يتصور الكثيرون ، وبأسرع مما زالت به دولة الصليبيين بإذن الله ، وسيقذف الله في قلوب يهود الرعب كما قذف في قلوب آبائهم يوم الخندق حيث يصفهـم الله فيقول (وأنزل الذين ظـاهروهم من أهـل الكتـاب من صيـاصيهـم وقـذف فـي قلوبهـم الرعـب فريقا تقتلـون وتأسـرون فريقا) [الأحزاب : 26] . وهذا ما سيكون : سنقتلهم حيث ثقفناهم ، ونخرجهم من حيث أخرجونا ، وسيعود الإسلام به نقاتل وننتصر ، وبه نعيش ونحيا ، وبه نطهر ونتطهر ، وبه نتوحد بعد فرقة ، وبه ستلغى الحدود ، وبه ستلغى جوازات السفر ، وبه ستلغى السفارات بين بلاد المسلمين ، وبه ستذهب هذه الأعلام التي لا حصر لها ولا عدد ، وستبقى راية الإسلام وحدها هي المرفوعة ، وهي التي لها العزة والكرامة . كل ذلك سيكون بالإسلام ، لأن القوميات لا يمكن أن تفعل ذلك ، ولا الأيدلوجيات يمكنها أن تفعل ذلك حيث لم نر في ظلها وظل شعاراتها إلا الخزي والعار والهزائم والسخائم .
 
خلاصة تفسير آيات سورة الإسراء

نحن نعيش في مرحلة تاريخية ، قبل قيام الساعة ، أخبرت عنها آيات من القرآن وأحاديث صحيحة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وهذه المرحلة سلسلة من العذاب الذي سلطه الله على يهود منذ أن غضب الله عليهم حينما قتلوا الأنبياء وعصوا الرسل ، وقال الله فيهم ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) [ الأعراف : 167 ] . والآيات الخاصة بهذه المرحلـة التي نعيشهـا وردت في سورة الإسراء ، وخلاصتها تتمثل في النقاط التاليـة :

1 - سورة الإسراء تتحدث عن علاقة يهود بالمسلمين .

2 - سمي المسجد الأقصى " مسجدا " ليلة الإسراء .

3 - أسري برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الإسراء من مكة إلى القدس ليكرس المسجد الأقصى " مسجدا " ، وليصعد من ساحاته إلى السماوات العلا حيث سدرة المنتهى .

4 - تتحدث آيات الإسراء عن علو واحد ، وإفسادين وعقوبتين قضى الله بهما على بني إسرائيل في الكتاب ، فالقضاء هناء المقصود به الحكم على إفساد اليهود بالعقوبة وليس بمعنى أن الله أمرهم بالإفساد مرتين .

5 - المفسرون القدامى أخذوا يبحثون عن العلو ، والإفسادين والتدميرين في التاريخ الذي سبق نزول القرآن . ويهود عذبوا قبل الإسلام ، وعذبوا بعد الإسلام ، وسيستمر العذاب فيهم إلى قيام الساعة بنص الآية . إذن ليس هناك من داع للبحث عن عذاب يهود التي أشارت إليها آيات الإسراء في التاريخ ، ما دام السياق في الآيتين يشير إلى أن المرتين بعد نزول القرآن وليس قبله ، للأسباب الآتية :

أ - يقول الله تعالى (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعـلن علوا كبيرا فإذا جاء وعـد أولاهما) [الإسراء : 4] ، فكلمة "إذا" شرطيـة لما يستقبل من الزمان ولا علاقة لما بعدها بما قبلها ، و "اللام" في "لتفسدن" و"لتعلن" هي لام الإستقبال .

ب - يقول الله تعالى ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) [ الإسراء : 5 ] ، وكلمة " عباد " إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة فهي في موطن التشريف . ولا يوصف بها إلا المؤمنون ، ونبوخذ نصر كان وثنيــا ، فلا يستحق هذا التشريف ، وكذلك الرومان كانوا وثنيين ، فلا يستحقون هذا التشريف . يقول الله تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الحجر : 42 ] . وهذا الوصف ينطبق على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الذين قاتلوا في المدينة وفي خيبر وفي تيماء ، وهذه هي المرة الأولى التي تشير إليها الآية ، وأما المرة الثانية ، فيقول تعالى (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) [الإسراء : 6] ، و"الكرة" - لغة - الدولة والسلطة ، فهل جعل الله ليهود سلطة على البابليين أوالأشوريين ؟ لم يحدث هذا . هل يمكن أن يحـدث الآن أو في المستقبـل ؟ يستحيل ذلك لأن البابليين والأشوريين قد انقرضـوا . الذي حصل أن الله جعل الكرة ليهود على أبناء الصحابة الذين جاسوا خلال الديار بعد أربعة عشر قرنا .

6 - يقول الله تعالى (وأمددناكم بأموال وبنين) [الإسراء : 6] لم يحدث أن مد الله يهود بأموال وبنين إلا في هذه المرة التي نعيشها ، فدولة يهود تعيش على التبرعات التي تأتيها من الغرب الصليبي وعلى المهاجرين الذين يأتونها من الغرب الصليبي ومن الشرق الشيوعي (السابق) .

7 - يقول الله تعالى (وجعلناكم أكثر نفيرا) [الإسراء : 6] ، حيث تمدهم بالعون العسكري أكبر دول الأرض : أمريكا ودول الحلف الأطلسي .

8 - يهدد الله يهود بعد أن قامت لهم دولة أنهم إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهـم وإن أساءوا فعليها ، ويهود لا يمكن أن يحسنوا ، وإساءتهم متحققة ، ولذلك فلا بد أن تزول دولتهم وتدمر .

9 - فإذا جاء وعد المرة الثانية في تدمـير علوهم فسيدخل المسلمون المسجد الأقصى كما دخله المسلمون أول مرة فاتحين وسيدمر علو يهود المادي والمعنـوي .

10 - في آخر سورة الإسراء آية تتعلق بقضية علو يهود وتدمير إفسادهم الثاني ، وهي قوله تعالى ( وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا * وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما ارسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) [ الإسراء : 104 - 105 ] ، والآية تشير إلى مجيء يهود إلى فلسطين جماعات . . جماعات ، وذلك بعد أن تفرقوا في الأرض . وقد بدأ اتيانهم إلى أرض فلسطين من أول القرن العشرين ليقوموا بإفسادهم الثاني المصاحب للعلو في الأرض المباركة تمهيدا لتدميرهم ، والآية تشير إلى بشرى للمؤمنين وإنذار للكافرين .

خلاصة تفسير آيات المائدة

1 - تتحدث الآيات في سورة المائدة [ آية 51 فما بعدها ] عن ولاء يهود والنصارى . والواقع التاريخي يشير إلى أن العداوة بين يهود والنصارى قائمة منذ أن اتهم النصارى يهود بصلب المسيح حسب زعمهم ، فلم توجد دولة نصرانية إلا وعذبت يهود ، فكيف يمكن التوفيق بين الواقع التاريخي وبين ما أشارت إليه آيات المائدة وبين آيات أخرى في القرآن الكريم تقرر عداوة النصارى ليهود كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريـون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل -أصبحــت نصرانيـة- وكفـرت طائفـة -بقيـت على يهوديتهــا- فأيـدنا الذين آمنـوا -النصارى- على عدوهم -يهود- فأصبحوا ظاهرين) [الصف : 14] .

2 - بعض المفسرين حينما رأوا الواقع التاريخي والآيات الأخرى يشيران إلى العداوة بين يهود والنصارى وليس الولاء ، قالوا : إن المراد لقوله تعالى (يا أيهــا الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) [المائدة : 51] قالوا إن كل فئة موالية لبعضها البعض ، وليس الولاء بين يهود والنصارى مجتمعين! وهذا قول مردود ، حيث أن آيات القرآن تشير إلى عكس ذلك، فيقول الله في الآية [14] من سورة المائدة (ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون) [المائدة : 14] . وكذلك الحروب بين الدول النصرانية لم تنقطع عبر التاريخ وإلى يومنا هذا .. وكذلك يهـود ليس بعضهـم أوليـاء بعض . فاللـه يقول (تحسبهـم جميعا وقلوبهـم شـتى) [الحشر : 14] . ويقول أيضا (وقالـت اليهـود يد الله مغلولـة غلـت أيديهـم ولعنـوا بما قالـوا بل يداه مبسوطتـان ينفق كيـف يشـاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليـك من ربك طغيانا وكفرا وألقينــا بينهم العداوة والبغضـاء إلى يوم القيامة) [المائدة : 64] .. والعداوة بين شقي يهود الرئيسيين السفارديم (اليهود الشرقيين) ، والأشكناز (اليهود الغربيين) مشهورة ومعروفة ، وكذلك العداوة بين أحزابهم المختلفة غير خفية .

3 - إذن تبين أن المراد بالولاء بين يهود والنصارى ليس ولاءً دائما ، وإنما هو لفترة محدودة بدأت بأول القرن العشرين ، حيث تعاون يهود والنصارى على عزل السلطان عبد الحميد ، حينما رفض أن يعطي إمتيازات ليهود في فلسطين ، ثم جاءت بريطانيا النصرانية ، فأعطت وعد بلفور ثم جاءت عصبة الأمم النصرانية ، فأعطت صك الإنتداب على فلسطين لبريطانيا النصرانية ، ثم عينت بريطانيا النصرانية أول مندوب سام لها في فلسطين ( هربرت صموئيل ) وهو يهودي فوضع الأسس لقيام دولة يهودية في فلسطين بسنه القوانين والتشريعات وفرضه الضرائب . . الخ . ثم جاءت هيئة الأمم النصرانية ، فأعطت قرار قيام دولة يهود سنة 1947م ( قرار التقسيم ) ، وفي سنة 1956م تعاونت جيوش يهودية نصرانية - لأول مرة في التاريخ - العدوان الثلاثي على مصر المسلمة . وفي الستينات قرر المجمع المسكوني للبطاركة الكاثوليك برئاسة البابا يوحنا الثالث والعشرين تبرئة يهود من دم المسيح - حسب زعمهم - وكذلك فعل خلفه البابا بولص السادس . وقد أخذ التعاون شكله الجلي الواضح بين يهود والنصارى بقتال النصارى الموارنة مع يهود في خندق واحد ضد المسلمين الفلسطينيين واللبنانيين في لبنان ، وتعاون أحزاب " الكتائب " برئاسة بيير الجميل و " الوطنيون الأحرار " برئاسة كميل شمعون ، ومليشيات " الرهبانيات اللبنانية " برئاسة الأب شربل قسيس مع يهود وبشكل علني وكذلك إنضمام فئة من الجيش اللبناني من المارونيين إلى قوات يهود في جنوب لبنان برئاسة الرائد الماروني النصراني سعد حداد ، ثم اللواء أنطوان لحد ، وبشكل يقطع جهيرة كل داع إلى القومية العلمانية العنصرية المحرمة من الإسلام ، حيث انهارت القومية العربية العلمانية ومبادىء ما يسمى بالثورة العربية الكبرى والتي تدعو إلى العروبة منفصلة عن الإسلام مع الاشتراكية والشيوعية .

4 - تتحدث الآيات على أن الذين يوالون يهود والنصارى ضد أمتهم . قد ارتدوا عن الإسلام وأصبحوا من يهود والنصارى .

5 - تشير الآيات إلى أن هذه الفئات المرتدة التي تتعاون مع يهود والنصارى ضد أمتها تكون عادة من أصحاب النفوذ والسلطان ، لأن الله يصفها بالظلم ، والظلم والعدل يوصف به أصحاب النفوذ والسلطان عادة .

6 - تتحول هذه الفئات المتعاونة مع يهود والنصارى ضد أمتها إلى فئات مريضة القلب ، أي منافقة ، فهي تظهر أمام الأمة بمظهر لا يدل على حقيقتها ، وتظهر أمام يهود والنصارى بمظهرها الحقيقي .
7 - تسارع هذه الفئات المتعاونة مع يهود والنصارى فتبذل كل جهدها في إرضائهم ، فتنفذ كل ما يطلب منها ، فهي تعمل بقوانين يهود والنصارى ، فهي تقتل الحركات الإسلامية وتبيح كل ما حرم الله ، وهي كذلك تسلم الأوطان علها تبقى في السلطة .

8 - إذا سألت هذه الفئات : لم التسارع في إرضاء يهود والنصارى؟ أجابتك :لأنها تخشى أن تصيبها دائرة ، فهي تخشى على سلطانها ونفوذها وكراسيها من يهود والنصـارى . وفي هذا إشارة إلى أن وقت تحقق معنى هذه الآية تكون السلطة في الأرض وخصوصا في بلاد المسلمين ليهود والنصارى مجتمعين .

9 - عندها يأخذ الله سبحانه وتعالى الأمر بحكمته فيعالجه معالجة جذرية فيقول (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) [المائدة : 52] ، و"الفتح" هنا الفصل والحكم ، فهو سيفصل بين الفئة المؤمنة القليلة وبين يهود والنصارى والمتعاونين معهم بأمر هو يعلمه .

10 - لقد بدأت بوادر هذا الأمر تظهر في الانتفاضة العظيمة التي حدثت في فلسطين المسلمة ، والجزائر المجاهدة ومصر والسودان وتركيا وبقية بلاد المسلمين ، وظهر قبل ذلك في شباب الأمة في إقبالهم نحو الإسلام .

11 - سيندم كل من تعاون مع يهود والنصارى ضد أمته في الحياة الدنيا قبل الآخرة كما ندم الشاه وأعوانه والسادات وأعوانه والنميري وأعوانه وكما سيندم الكثيرون يوم تمتد موجة الإسلام فتخلـع كل باطـل وتزلزل كل ظـالـم وتمحو السيء من الأرض . .

12 - عندما يحدث ذلك ستتكشف حقائق مرعبة وأمور مذهلة وخفايا كثيرة لهؤلاء الذين يواجهون الأمة بوجه ، وعدونا بوجه آخر ، حتى تستغرب الأمة أو الفئة التي خدعت ( ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) [ المائدة : 53 ] .

13 - يحذر الله الأمة من أن ترتد فتتبع يهود والنصارى والذين فعلوا ذلك ويفعلون سيندمون على ما فعلوا فسوف يأتي الله بأحبابه . وأحباب الله هؤلاء هم الذين يخلفون المرتدين ، وهم أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين . والمرتدون أذلة على الكافرين أعزة على المؤمنين . والمرتدون لا يريدون الجهاد ، وأحباب الله لا تأخذهم في الله لومة لائم .. هي صور متقابلة للقيادات المؤمنة وللقيادات المرتدة .

14 - حينما يأتي أحباب الله هؤلاء سيكونون موضع استغراب الناس كما حصل في فلسطين والجزائر ، فالله سبحانه يجيب على هذا ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) [ المائدة : 54 ] .

15 - يأمـرنا الله بألا نـوالي يهـود والنصـارى ، إذن نــوالي من ؟ يجيب اللـه سبحانه وتعـالى ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصـلاة ويؤتـون الزكاة وهم راكعـون ) [ المائدة : 55 ] ، وبعد ذلك يخـتم الله بالنصـر الأكـيد ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنـوا فإن حزب الله هم الغالبــون ) [ المائدة : 56 ] .


فإذا ربطنا آيات الإسراء المتعلقة بيهود ، وآيات المائدة المتعلقة بيهود والنصارى وموالاتهم بالأحاديث الصحيحة التي وردت عن قتال يهود ، والتي رواها البخاري ومسلم ، وجدنا أن النصر حتمي ، وأن زوال دويلة يهود حتمي كذلك . وهذا نص ما رواه مسلم : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الحجر والشجر : يا مسلم ، يا عبد الله هذا يهـودي ورائي تعـال فأقتـله إلا الغرقـد فإنه من شجر يهود " . ورواية البخـاري تقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :" تقاتلكم يهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر والشجر : يا مسلم ورائي يهودي تعال فأقتله " .

تطل علينــا أيام فيها الخـير ، ولكنها ليست سهلة ، حيث أن المعركة الأخـيرة بيننـا وبـين يهود في الأرض المبـاركة ستكون مريرة يشـترك فيها المسلمـون كل المسلمين ، ولكن النصر فيها محتوم بإذن الله ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) [ الحج : 40 ] . أبشروا بيوم كيوم بدر ، وكيوم القادسية ، وكيوم الــيرموك ، وكيوم حطين ( ويقولــون متى هو قل عسى أن يكون قريبــا ) [ الإسراء : 51 ] .

عوامل النصر التي تمتلكها الأمة

بينت الآيات والأحاديث التي شرحناها في هذا الكتاب أن دولة أو ما يسمى بدولة إسرائيل لن تدوم ، وأن زوالها حتمي ، مهما حاول الكفر أن يطيل من عمرها، أو يعطيها أدوية مصطنعة ليستمر بقاؤها . ولكن هل تزول إسرائيل بالدعاء وحده ، أو بتفسير الآيات وحدها ، وبيان الأحاديث النبوية التي تبشر بزوالها ؟ إن ذلك لا يقول به الإسلام ، إذ لم يكتف رسول (الله صلى الله عليه وسلم) بالدعاء على الكافرين ، وإنما جهز الجيوش وخاض المعارك ، وانتصر حينما كان أصحابه يتقيدون بالأمر الرباني ، وكان ينهزم أصحابه حينمـا يخالفـون الأمر كما حدث في (أحد) ، حينما خالـف الرمـاة أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) ، مما فتح الثغرة وانكشف ظهر المسلمين ، فتسبب ذلك في هزيمتهم ، أو حينمـا ينسـون التوكل على ربهم ويعتمـدون على قوتهم وعددهم وحدها كما حدث يوم (حنين) ، إذ أصاب الجيش الإسلامي غرور بكثرة عدده ، فأعتبر أن النصر للكثرة ، ونسي أن النصر للكيف لا للكم ، والكيف هنا (الإيمان) ، والإيمان هو التوكل على الله وطلب النصر منه بعد إعداد العدة ، لأن المسلمين في تاريخهم الطـويل ومعاركهـم الحاسمـة لم ينتصروا بكـثرة عددهم ولا العـدة . ففي (بدر) و(الخندق) و(فتح إفريقيا) و(فتح الأندلس) و(فتح الهند) كان جيش الكفار يتفوق عليه بأعداد كبيرة ، ولكن النصر دائما كان حليفهم ، لأنهم كانوا مع الله .

واليوم والأمة في معركة البقاء كأمة لها مقومات متميزة وحضارة واضحة، ورسالة هي المنقذة للبشرية ، جاء عدوها لها بأعدائها يهود ، فغرسهم في قلبها في فترة غياب الإسلام عن المجتمع وعن الحكم ، في فترة الفرقة وتعدد الرايات والدويلات والإمارات والمشيخات ، في فترة سيادة الفكر العلماني بوجهيه الرأسمالي والإشتراكي ، في فترة سطيرة أحزاب الهزيمة وزعامات الخيانة الذين وثبوا إلى الحكم بنهم وشراسة ، وغرقوا في اللذة وهم في طغيانهم يعمهون ، في فترة تثبيت الحدود وتعدد الجوازات وكثرة الأعلام والرايات . وكانت هذه الأحزاب وتلك الزعامات تظن أن الإسلام قد انحسر ، ولم يعد مؤثرا في الحياة ، وأنهم استطاعوا أن يحصروه هم والكفار في المساجد والزوايا والتكايا ، وفي الدروشة الفارغة ، وفي الصوفية المتطرفة الملحدة التي تتعدد فيها الآلهة .. وظنوا أنهم استطاعوا أن يحولوا الإسلام بهذه الفرق التي أنشأها الكفر في القديم والحديث كالفرق الباطنية بمختلف أسمائها ومسمياتها ـ كالإسماعيلية والدروز والعلوية - .. وكذلك القاديانية والبهائية والبابية وغيرها ، فنام الكفر ونامت الأحزاب الضالة ، والزعامات المنحرفة مطمئنة إلى أن الأمر قد انتهى ، وفجأة فإذا الإسلام يحرك النفـوس من جديد ، وإذا شبـاب الأمة يصحـون من غفوتهم ويستيقظـون من سباتهــم ، وإذا هم متجهـون إلى الله ، يملأون المساجد ، ويتدارسون القرآن ، ويطلقون اللحى ويتفقهون في دين الله . وخافت الأحزاب الكافرة والزعامات الفارغة من لحاهم لأنها تعتبر عن هويتهم ، فأصبح صاحب اللحية مطاردا في كثير من هذه الدويلات ، ولكن هذه الأحزاب والزعامات تحس في قرارة نفسها أنها مسلطة على الأمة بالحديد والنار ، وأن أجلها محتوم ، وأن خلاص الأمة منها قضاء مبرم ، وأن الأمة تسير الدرب إلى النصر وهي في طريقها تملك الإمكانات الضخمة للنصر وللغلبة وللتخلص من دولة يهود ، ومن الفرقة ومن أسباب الهزيمة . وأسباب النصر هذه أوجز بعضها كما يلي :

أولا : أ - تملك الأمة عقيدة راسخة ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى ، هذه العقيدة التي تربى عليها أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ومن بعدهم جنود الإسلام عبر التاريخ، فانتصروا بها .. هذه العقيدة التي تجعل النصر بيد الله (وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم) [الأنفال : 10] . هذه العقيـدة التي تقـرر أن الأجل محـدود ، فلا يموت الإنسان إلا بإنتهاء أجله ، لا تميته الحرب ولا المرض ، ولا تبقيه الصحـة والنشـاط (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) [الأعراف : 34] . فكم من مريض عاش سنوات طويلة حتى مل الحياة من مرضه ، ومله أهله ، وكم من صحيح معافى مات ولا يملك الأطباء إلا أن يقولوا : إنها (السكتة القلبية) ، وهي في الحقيقة انتهاء الأجل !! .

ب - هذه العقيدة تجعل الشهادة في سبيل الله أسمى ما يطمح إليه المسلم ، لما أخبرت به الآيات والأحاديث عن النعيم الذي يلقاه الشيهد في الجنة ، والحياة الكريمة التي يحياها بعد الموت (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آياتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [آل عمران :169-170]، (يا أيهـا الذين آمنـوا هل أدلكم على تجـارة تنجيكم من عذاب ألـيم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين) [الصف : 10-13] .

والجهاد هو حياة الأمة ، إن تركته ذلت ، والشهادة نعيم لا يعدله نعيم ، وقد روى البخاري حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :"جعل الله للشهداء في الجنة مائة درجة ، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض ، وإن أوسطها الفردوس ، فاسألوا الله الفردوس" .

ويغفر للشهيد بأول قطرة تنزل من دمه ، كما ورد في الحديث :"ويغفر له جميع ذنوبه ما عدا حقوق العباد" . وقد خص الله شهيد البحر بميزة أنه يغفر له حتى حقوق العباد ، كما ورد في الأحاديث .

فأمة تملك هذه العقيدة لا تحرص على حياة الذل والهوان والمسكنة والإستسلام وبالرضا بالأمر الواقع والخنوع للعدو الكافر .

ثانيا : تملك الأمة الطاقة التي تحرك الآلة في الأرض ، فإذا منعت هذه الطاقـة عن العدو ركع بين يديهـا يطلب رحمتها .. وما أسخف أولئك الذين يقولون: إن البـترول لا علاقة له بالسياسة ، حتى يستمروا في فجورهم وانحلالهـم ، وحتى أصبح كثير منهم سبة في جبين الأمة ، يعطون عدوهم البترول ليقتلهم به في الطائرات التي يقدمها ليهود ، وفي المدافع والدبابات والسيارات والكهرباء وكل آلات الفتك . فهل رأيتم كيف يتصرف هؤلاء الناس في ثروة الأمة ؟ في السلاح الفتاك الذي أعطاه الله لهم ؟ فوالله لو إتخذ أصحاب البترول من الثوريين والرجعيين قرارا بوقفه مرة واحدة ولمدة وجيزة بحيث ينفد المخزون عند الغرب ، ما بقيت دولة يهود بعد هذه المدة!! ولكنه الحرص على الحياة ، وعلى المتع الرخيصة ، وعلى القصور والفجور ، مما عرف الناس ولا يعرفون ، ومما سمعوا به ولا يسمعون ، وأمتهم تموت كل يوم ، وعدونا يقتل أطفالنا ونساءنا ، ويعذب ثوارنا ، ويدمر بنياننا .. وصل الأمر بأنور السادات أنه أعلن هو وزمرته أنهم سيعطون البترول ليهود بعد أن قطعت الثورة الإيرانية في إيران الطاقة عن إسرائيـل . والعقيدة التي أشرنا إليها ، تحرم بيع البترول للعـدو ، لأن هذا ولاء له وإعانة له على أمته .

ثالثا : تملك الأمة وسائل التحكم في النقد العالمي ، فلو كان حكامها على مستوى المسؤولية لأسقطوا الدولار - العملة الرئيسية في العالم - بقرار يتخذ ألا يقبل ثمن البترول بالدولار ، وأن يكون هناك دينار إسلامي يدفع به ثمن البترول في آسيا وأفريقيا ، ويملك المسلمون معظمه .

ولكن الوهن يسيطر على الفئات المنتفعة ، فتتشبث بالحياة وتكره الموت . وفي فترة من الفترات أعلنت السعودية أنها لا تريد أن تأخذ ثمن ربع بترولها بالجنيه الإسترليني ، فسقط الجنيه في الأسواق العالمية خلال ساعات . فأضطر وزير المالية البريطاني أن يهرع إلى الرياض ويقابل الملك فيصل ، ويطلب منه إنقاذ بريطانيا بتصريح واحد يعلن فيه أن الجينه سيبقى ساري المفعول في دفع ثمن ربع البترول . أما الآن فقد أفقدوا البترول قيمته ، وأخرجوه نهائيا من المعركة خدمة للإستعمار .

رابعا : الأمـة تملك العـدد الوفـير ، فهي تملك أكثر من المليار من المسلمـين ، منهم حوالي 200 مليونا من العرب . لكنها الكثرة التي عبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قوله :"تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، ولينزعن الله مهابتكم من قلوب عدوكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن . قالوا : وما الوهـن يا رسول الله ؟. قال : حب الدنيا وكراهيـة المـوت . قالوا : أمن قلة نحن يومئـذ يا رسول الله ؟!، قال : بل أنتم كثـير ولكنكم غثـاء كغثـاء السيل" ، ولكن هذا الغثاء بدأ يرسب إلى القاع ، وبدأ الجوهر يبرز على وجه الحياة في الأمة ، في هذا الشباب المؤمن المتفتح القوي الذي بدأ يستهين بالموت وبدأت رياح الخير تهب ، وستعصف بكل الفساد والفرقة والإنحلال والضعف والهوان والوهن ( ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ) [الإسراء : 51] .

خامسا : تملك الأمة الأرض الواسعة التي تمتد عبر ثلاث قارات ، ولكنها أرض مجزأة ، فلو توحدت لأعطت عمقا إستراتيجيا يقصر العدو عن بلوغ مداه ، ففي العمق الجنوبي الغربي تمتد فلسطين إلى المغرب الأقصى ، ومن فلسطين إلى السودان ونجيريا ، وبقية دول أفريقيا المسلمة ، وفي العمق الشرقي يمتد إلى بحر الصين وحدود جبال هملايا ، وتمتد في أوروبا إلى اسطنبول عاصمة الخلافة (آخر دولة اسلامية) حيث المدينة فيها جزء أوروبي والآخر آسيوي .

هذه الأمة بإمكانياتها هذه ، هل يعجزها يهود ؟ وما يهود ؟ لولا أن حـدودهم محميــة ، فوالله لو دخلنـاها عليهم بأيدينــا ما بقي منهم أحد . إننا سنقتلهم .. بقدرهم جاءوا ، فظلموا وبطشوا حتى يبرر الله لنا قتلهم (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) [البقرة : 191] .

الرد على فتوى شيخ الأزهر للسادات
بجواز الصلح مع يهود

استند شيخ الأزهر عبد الرحمن البيصار إلى الأشياء التالية :

أولا : الآية ( وإن جنحوا للسلم فأجنح لها ) [ الأنفال : 61 ] .

ثانيا : صلح الحديبية .

ثالثا : عرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الأنصار في أن يصالح قبيلة غطفان على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة مقابل إنسحابهم من المعركة في غزوة الأحزاب .

رابعا : أن السادات إمام واجب الطاعة .

ولما كان للإستناد إلى هذه الآيات والأحاديث ، وعمل الرسول والقاعدة الفقهية ، هو تحريف للكلام عن موضعه ، وتضليل للمسلمين ، وكذب على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين ، حيث يدخل عبد الرحمن البيصار شيخ الأزهر ومن سار على دربه ، وعبد المنعم النمر وزير الأوقاف والأزهر في مصر ومن سار على نهجه ، هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى في وصف أحبار بني إسرائيل ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) [ البقرة : 191 ] .

وأنا لا أشك أن هؤلاء العلماء قد ضلوا ، وهم يتبعون هوى الحاكم ، فلو أعلن السادات حرمة الصلح مع يهود لقدموا الأدلة على عدم جواز الصلح ، ولتمادوا في إرضائه كما فعلوا عندما حاول تبرير ردته ، ولذلك هم خرجوا بهذا الإيمان بنص الحديث :" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ، والله يقول ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) [ النساء : 138 - 140 ] .

وهل هناك أعظم من الاستهزاء بآيات الله من أن يصبح يهود أعداء الله والمؤمنين بنص القرآن ( لتجدن أشد الناس عدواة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) [ المائدة : 82 ] أصدقاء وأحبابا لأنور السادات ، وشيخ الأزهر ، إستهزاء بآيات الله وكفرا بها . ولقد حدثني صديق يقدم رسـالـة ماجستير في القـاهرة ، وكانت الرسالة تتعلق بالدعوة الإسلامية أن أحد أعضاء المناقشة للرسالة رفض أن يجيزها ، لأن فيها فصلا يتحدث عن جرائم بيغن ، وقتله للأطفـال في ( دير ياسين ) ، فقال الأستاذ :" إن اليهود أصبحوا أصدقاء ، وبيغن هو صديقنا ، فلا يجوز أن نهاجمه ، ويجب أن يحذف هذا الفصل من الرسالة " ، ولكن الصديق أصر على بقائها ، ورفض الحذف ولو أدى ذلك إلى عدم نيل الشهادة .

وهكذا يعمل علماء السوء في خدمة الحكام المنحرفين والمرتدين ليشتروا بعملهم هذا ثمنا قليلا من منصب أو مال أو جاه ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ) [ الأنفال : 67 ] .

ولنبدأ بمناقشة الأدلة التي إستند إليها شيخ الأزهر في فتـواه :

أولا : الآية ( وإن جنحوا للسلم فأجنح لها ) [ الأنفال : 61 ] : أخذ شيخ الأزهر الآية مبتورة عما قبلها وعما بعدها فبترها بترا ، فهو كمن يستدل على حرمة الصلاة بقوله تعالى ( فويل للمصلين ) [ الماعون : 4 ] تاركا تكملة الآية التي تقول ( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) [ الماعون : 5 ] . فالآية تبدأ بقوله ( وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) [ الأنفال : 60 ] .

فالآية تأمر المسلمين بالإعداد المادي للمعركة ، وأن يعدوا ما يستطيعون الوصول إليه من سلاح لإرهاب عدوهم وتخويفه ليحملوا الدعوة إليه فيعرضوا عليه الإسلام أو الجزية أو الحرب ، فإن رفض الإسلام ورفض دفع الجزية ، كان لا بد من القتال ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] . والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " .. فإذا رفضوا وجب القتال ، فحينما ينتصر المسلمون ويغلبون ، وهذا دأبهم حينما كانوا يحملون الدعوة ، فإذا طلب عدوهم منهم في أثناء القتال أنه يريد أن يسلم أو أن يدفـع الجزية ، فلا يصـح القتـال في هذه الحـالة .. ومن هنـا جاء قـول الله تعالى ( فإن جنحوا للسلم فأجنح لها وتوكل على الله ) والدليل على صحة هذا القول يأتي أيضا من بقية الآية ( وإن يريدوا أن يخدعوك - أي بطلب السلم - فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ الأنفال : 62 ] أي إن الله سيكفيك النتائج المترتبة على خداعهـم ومكرهم . علما بأن بعض العلماء يقولون أن الآية منسوخة ( وأنا من القائلين بعدم نسخها ) ، والذي حدث أن يهود لم يجنحوا للسلم ، ولا يقبـل منهم أيضــا إن جنحوا للسلم مع طلبهم البقــاء في أرض فلسطين دولة ، ولا يقبـل منهم هذا الجنـوح ، لأن فيـه إقـرارا للغاصب على اغتصابه وهو حرام لا يجوز ، والمسلمون لم يخلقوا ليأكلوا ويشربوا ، وإنما خلقوا للجهاد ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) [ الأنفال : 7 ] . . أي "النصر والشهادة " ، والله يقول ( وأقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) [ البقرة : 191 ] ، والله يحذر من الضعف والإستسلام ، ويقول ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) [ محمد : 35 ] .

وبعد هذا البيان لهذه الآية يتضح الضلال الذي وقع فيه شيخ الأزهر عبد الرحمن البيصار ، وعبد المنعم النمر - وزير الأزهر والأوقاف - ومن سار على دربهما ، وقد لحق بهما في ضلالهما في مصر المدعو ( جاد الحق ) وهو قد تمرد على الحق في فتواه .

ثانيا : إستند شيخ الأزهر في فتواه إلى صلح الحديبية . وصلح الحديبية كمـا ورد في السير : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد خرج بأصحابه يريد العمرة ، فأعترضتهم قريش حينما وصلوا إلى أطراف مكة في الموضع الذي يسمى الحديبية ، ثم بدأت المفاوضات بين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين مندوب قريش سهيل بن عمرو ، وأنتهت المفاوضـات بعقد معاهدة لمـدة عشر سنوات وهي ( هدنة ) وليست ( صلحا ) على أن يرجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في العام القادم فيعتمر هو وأصحابه بعد أن تخلي لهم قريش عن مكة ثلاثة أيام .
والفرق بين ما عمل السادات في ( كامب ديفيد ) وفي صلحه مع يهود وبين صلح الحديبية :

1 - صلح ( كامب ديفيد ) صلح دائم غير مؤقت بوقت ، وهذا الصلح لا يجوز مع الكفار أصلا ، كما نص على ذلك الفقهاء ، وصلح الحديبية ( هدنة ) موقوتة لمدة لمدة عشر سنوات .

2 - لم يتنازل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أرض للكفار ، إذ إن قريشا كانت تملك مكة وهم أهلها ، أما السادات فقد تنازل عن أرض الإسلام في فلسطين وتنازل عن السيادة في سيناء التي يحرم على جيش مصر أن يدخل أجزاء كبـيرة منهـا ، كما أعـلن وزير دفاعهـم ( وايزمان ) حينمـا خاطب السـادات وقال لـه :" لا تلجئني لأن آخذ سينـاء مرة ثالثة " ، وهو بالفعل يستطيع أخذها في ساعة من الزمن ، لأنه بمقتضى المعاهدة الجيش المصري ممنوع من دخول الأجزاء التي إنسحب منها يهود .

ثالثا : أستند المفتون في فتواهم إلى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يصالح قبيلة غطفان على ثلث ثمار المدينة ، حتى تنسحب من معركة الخندق ، وقد عرض النبي ( صلى الله عليه سلم ) الأمر على الأنصار فرفضه الأنصار ، وقالوا بعزة المؤمنين :" كنا وإياهم في الجاهلية لا نعطيهم من ثمارنا شيئا إلا قرى أو بثمنه ، فكيف نعطيهم وقد أعزنا الله بالإسلام " ، وكان هذا الأمر إمتحانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيمانهم وقوة شكيمتهم ودعما للروح المعنوية لأهل المدينة الذين كانوا في أشد حالات اليأس والضرر ، ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرض التنازل عن أرض المدينة لغطفان ، وإنما عرض أن يتنازل عن ثلث ثمار المدينة لفترة محدودة .

رابعا : أ - استند المفتـون في فتـواهم إلى أن السـادات " إمام واجـب الطاعـة " ، وهذا يصل الأمر في الفتوى إلى الهزال والتضليل الذي ليس ما بعده هزال وتضليل . فالإمام الواجب الطاعة هو إمام المؤمنين الذي اختاره المسلمون ليحكم بينهم بما أنزل الله ، وليطبق عليهم شريعة الله .. والأصل أن يكون إمام المسلمين واحدا . ولذلك يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :" إذا بويع لإمامين فأقتلوا اللآخر منهما " . وفي سقيفة بني ساعدة حينما انتخب المهاجرون والأنصار - رضي الله عنهم - أبا بكر - رضي الله عنه - ، عرض الأنصار في أثنـاء النقـاش :"منا أمـير ومنكم أمـير" . فقال :"لا يجتمع سيفان في غمد واحد" . والسادات لم تأت به الأمة ، وإنما جاء بإنقلاب دبر بليل صنعته أيدي أمريكا من أجل هذا اليوم الذي تعشه من الصلح مع يهود ، إذ أن هذا الإنقلاب كانت مهمته أن يقضي على الحركة الإسلامية التي تعادي يهود عقيدة ، حتى تستمر دولة يهود ويمشي صلحه معهم .

ب - السادات لا يحكم بما أنزل الله ، فقوانينه تبيح الربا وتبيح الزنا وتبيح الخمر وتبيح الميسر ، وتأكل أموال الناس بالباطل ، ولا تقيم الحدود ، ولا تحكم بالقصاص . ومن كان هذا شأنه فطاعته غير واجبة .

ج - السادات ألغى الجهاد في معاهدته . والجهاد فرض من فرائض الإسلام ، وهو ذروة سنام هذا الدين ، وهو ماض - لا يتوقف - إلى يوم القيامة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر" . ومن ألغى فريضة الجهاد ، فقد ألغى الدعوة الإسلامية ، ومن أنكرها فقد كفر ، كالقاديانية التي منعت حرب الإنجليز من قبل ، وجاء السادات ليمنع حرب يهود . ويظن السادات لإلغائه فريضة الجهاد أنه وصي على هذه الأمة ، ولكن لم يعلم أنه سيذهب ويبقى الجهاد . فهل تجب طاعة الحاكم الذي يلغي الجهاد - يا شيخ الأزهر - وأنت قد تعلمت في أبسط قواعد أصول الفقه أن لا اجتهاد في مورد النص ! .

إن إلغاء الجهاد يعني أن يعيش شباب الأمة في تفسخ جسمي وروحي ، وأن تنهار روح المقاومة فيها ، وأن تفقد روح التحدي وأن تصبح أرقاما متكررة ، وأصفارا متتابعة ، تعيش في الدنيا بإنحطاط ، يستولي عليها عدوها ، ويغرقها في الملذات ليقضي عليها بعد ذلك قضاء مبرما ، وهي خير أمة أخرجت للناس . سـيتدارك الله الأمة برحمتـه وستتخلص من أمراضهـا وأعدائها وزعانف الحكام فيهـا ، وأقزام الساسة لديها ، وستذهب أحزاب الكفر وشعارات الضلال ، وصدق الله (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) [الأنفال : 36] ، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف : 21] .

انتهى