الصفحة الرئيسية > المؤلفات > زوال إسرائيل حتمية قرآنية > 2

( 2 )
الإسراء وعلاقته بقضية المسلمين في الأرض المباركة

إشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من قريش ، حيث خافت قريش على ما يوفره الكفر لها من إمتيازات طبقية ودينية . وأخذ الصراع بين الحق والباطل يتصاعد بين الدين الجديد وما يمثله من خير للإنسان وما يعطيه للبشرية من حياة كريمة يعبد فيها الإنسان ربه الذي خلقه ، ويسجد لبارئه الذي أوجده فلا يسجد لبشر ، ولا ينحني أمام حجر أو شجر ، ولا يعبد فلكا ولا مظهرا من مظاهر الكون ، وإنما يستمد العزة لنفسه من عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .

اشتد الصراع بينه وبين الشرك ، وما يمثله من انحطاط في الفكر الإنساني والسلوك البشري الذي يظهر في السجود لحاكم أو كاهن أو حجر أو شجر أو فلك . ذلك الإنحطاط الذي ينتج عنه أن الغرائز في الإنسان تتحكم في مسيرته ، لا مقياس عنده يقيس به الأمـور ، ولا حلال ولا حرام ، وإنما كل أمر مبـاح : من قتل نفس ، أو ظلم إنسان ، أو أكل مال حرام ، إو إستعباد نفس ، أو إذلال للخلق . فلا عجب أن ظهرت الطبقية العرقية المتمثلة في السادة والعبيد ، والأشراف والسوقة . والطبقية الإقتصادية المتمثلة في الربا وأكل أموال الناس بالباطل ، واستغلال حاجة الآخرين للإثراء غير المشروع . والطبقية الدينية بحيث يصبح الدين وفهمه احتكارا على طبقة معينة وناس مخصوصين يستغلون جهل الناس ويطلبون منهم أن يعبدوهم ويطلبون منهم تقديم النذور والقرابين لهم ولما يمثلون .

وأخذ الكفر يقاتل عن مواقعه بشراسة حتى إضطر المسلمون إلى الهجرة مرتين فرارا بدينهم ، وحرصا على عقيدتهم ، وحتى يأذن الله بالفرج .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يقارع قومه الحجة ، يبين باطل ما هم فيه وما عليه حياتهم ، ولكنهم أصابهم الكبر وأشتد فيهم العناد ، وكان الله قد هيـأ له زوجة صالحـة تعتني بأمره وتدعمه بمالها ، وتخفف عنه قسوة عناد قومه ، وجهل عشيرته ، وهيـأ له كذلك عمه أبا طالـب يحميـه ، ويمنعهـم من قتله ، وإن لم يمنـع عنـه ما دون القتـل من الأذى ، وهم مع هذا يحسبون حساب عمه ( لإنه زعيم قريش ) .

ثم إن خديجة - رضي الله عنها - ، وأبا طالب ماتا في عام واحد قبل هجرته بثلاث سنين ، فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بموتهما ، وذلك أن قريشا وصلوا من أذاهم بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه ، حتى نثروا التراب على رأسه داخل البيت الحرام ، فقـامت إليه ابنته فاطمة الزهراء -رضي الله عنها- تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أبـاك " ، رواه الطبري .

ولما إستعصت قريش ، وصمت آذانها ، وأغلقت قلوبها وعقولها ، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، فلما وصلها عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيـف وأشرافهـم ، وهم ثلاثة إخـوة : عبد ياليل بن عمرو بن عمـير ، ومسعود بن عمرو بن عمـير ، وحبيب بن عمرو بن عمير ، فردوه ردا غير جميل . فقال أحدهم :" هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك " ، وقال الآخر :" أما وجد الله أحدا يرسله غيرك " ، وقال الثالث :" والله لا أكلمك أبدا لئن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك " .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خـير ثقيف ، وقد قال لهم ، فيما ذكره شيخ المؤرخين المسلمين الطبري :" إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني " ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى إجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتيبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعـة ، ورجـع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فلما اطمأن رسـول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ يناجي ربه مناجاة الصابر المحتسب يطلب منه المدد والعون حيث قومه لا يستجيبون للنور ولا يلتقون على الخير ، والطائف كانت أسوأ من مكة ، وأقسى من قريش . فأخذ يقول ، كما يروي الطبري :"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستعضفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكتـه أمري . إن لم يكن بك علي غضـب فلا أبالي ، ولكن عافيتـك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " .

تكريم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بحادثة الإسراء
في هذا الجو القاتم الشرس كان الله بنبيه رؤوفا رحيما ، وكان حادثة الإسراء من مكة إلى القدس ، وكان المعراج من أرض المسجد الأقصى إلى السماوات العلا ، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى . وكان في الإسراء أكثر من معنى ، وأثره لا يزال على مر الأيام وكر السنين .

يكرم الله نبيه على صبره ، ويجازيه الجزاء الأوفى على تحمله ، فيستدعيه إليه ، ويقربه منه ، ويرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه حتى ولا الملائكة المقربون ، ويقدم له أرض الشام ، أرض فلسطين ، أرض القدس ، أرض المسجد الأقصى ، هدية إيمـان وجائزة رضـوان فيفـتح النبي صلى الله عليه وسلم أرض الشام ، ومنها ارض فلسطين فتحا ماديا بجسده الشريف . يعلن الله للدنيا في ذلك الحين ، وللدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجدا للمسلمين ، فيصلي فيه النبي الصلاة الإسلامية الأولى إماما للأنبياء المرسلين ، حيث أحياهم الله له ، ويصلي الصلاة الثانية بعده عمر وأبو عبيدة ، وكبار الصحابة والجنود المؤمنون يوم دخل عمر القدس ، وأستلمها من بطريركها صفرونيوس وأعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه :" أن لا يسكن إيلياء ( القدس ) أحد من اللصوص واليهود " . وذلك أن كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا على علم منه لا يعلمه بقية الناس . وهذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر يهود على هذه الأرض .

 

قدسية المسجد الأقصى
وسـورة الإسـراء تتحدث عن المسـجد الأقـصى ، وإسراء النبي إليـه ، فتقـول : بسم الله الرحمن الرحيم (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصـير) [الإسراء :1] . وقد بنى المسجد الأقصى بعد الكعبة بأربعين سنة ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض . فقال : (المسجد الحرام) . فقلت ثم أي ؟ ، قال : (المسجد الأقصى) . قلت كم بينهما ؟ قال : (أربعون سنة ، ثم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فحيثما أدركتك الصلاة فصل) " . فعاد للمسجد الأقصى بالإسراء قدسيته ، وطهره حيث كان المسجد خرابا يبابا لا يصلي فيه أحد إلى أن جـاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقررت مسجديتـه في القرآن ، وأستلمه عمر فكان ينظفه هو وأصحابه من النجاسة ، وطهروه وأصبح من يومها منارة علم ودار إيمان ومحجة زوار ومحراب صلاة .

إذن سورة الإسراء قد خلدت علاقة المسلمين بالمسجد ، وإن المسجد للمسلمين حيث أسرى بنبيهم إليه ، وتقرر السورة بركة أرض الشام ، ومنها أرض فلسطين ، وتبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد والعلو ليهود والتدمير الذي سيلحق بهم ، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء والمسجد الأقصى .

الإفساد الأول:

لا بد أن نقرر هنـا أن علماء التفسـير قد اختلفـوا اختلافــا كبيرا في : متى كان ( الإفسادان ) ؟ ومن دمرهمـا ؟ اللذان أشـارت إليهمـا الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى ( وقضينــا إلى بني إسرائيـل في الكتـاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) [ الإسراء : 4 - 5 ] . فقال قوم : هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر . قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . وقال قتادة :" أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد " . وقال مجاهد :" جاءهم جند فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر " . وقال محمد بن إسحق :" إنه سنحاريب ملك بابل " . وقيل : إنهم العمالقة ، إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة .

ونحن حين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نجد الأشياء الآتية :

أولا : الأيات مكية ، وتتحدث عن إفسادين وعلو واحد كبير ليهود ، فهل مضى هذان الإفسادان قبل نزول الآية أم أنهما آتيان ؟

مما لا شك فيه أن يهود دمروا أكثر من مرة قبل الإسلام ، وقبل نزول الآيات ، فقد سباهم البابليون ، ودمرهم الرومان ، وذلك أنه منذ أن غضب الله عليهم ، نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الله وأنبيائه ، جعلهم يتصرفون تصرفا يلجيء البشرية إلى إذلالهم وضربهم . يقـول الله تعـالى في سورة البقـرة [ الآية 61 ] ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصـوا وكانوا يعتــدون ) . ثم تقرر آية أخرى في سـورة أخرى أن العذاب سيستمر في يهـود والتدمـير لهم إلى يوم القيـامة ( وإذ تأذن ربك ليبعـثن عليهم إلى يوم القيــامة من يسومهم سوء العــذاب ) [ الأعراف : 167 ] .

إذن لا غرابة أن يكون الإفساد والعلو ثم التدمير لمرتين بعد نزول الآيات ، والواقع أن المتعمق في الآيات يجد أن المرتين اللتين أشارت إليهما آيات الإسراء في علو يهود وإفسادهم ثم تدميرهم هما بعد نزول آيات الإسراء .

وذلك أن الله يقول ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما ) ، واللام في ( لتفسدن ) لام الإستقبال والتوكيد . واللام في ( ولتعلن ) كذلك لام الإستقبال والتوكيد . والملاحظ أنه عبر عن إفسادين ولكنه قرن مع أحد الإفسادين علوا كبيرا . و ( إذا ) آداة ظرفية تدل على أن الأمر سيقع في المستقبل ، ولا علاقة لما بعدها بما قبلها ، فوجود كلمة " إذا " في الآية تدل على أن الإفساد الأول ثم التدمير الأول آتيان ، وأنهما لم يمرا ، كما أن استعمال "إذا " للمرة الثانية يدل على أنها آتية لم تمر كذلك . ثم يقول الله تعالى (بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار) ، أي أن الذين سيتولون تدمير يهود هم من المؤمنين ، إذ أن الله سبحانه وتعالى حين يضيف كلمة "العباد" لذاته تكون في موضع التشريف ، ويخص بها المؤمنين ، كقوله تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) [ الفرقان :63] ، و(قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم) [الزمر : 53] ، و(سبحان الذي أســرى بعبـده) [الإسراء :1] . وأعظـم مـنزلـة للنبي صلى الله عليـه وسلم أنه (عبد الله ورسوله) ، وفي التحيات نقــول :"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين" .

في إحصائية لورود كلمة ( بعثنـــا ) في كتاب الله الكريم نجد ما يلي : إن كلمة ( بعثنا ) استعملت سبع مرات ؛ خمسا منها للأنبياء عليهم السلام ، وواحدة لنقباء بني إسرائيل ( وبعثنا منهم إثني عشر نقيبـا ) [ المائدة : 12 ] ، وواحدة لمعاقبـة بني إسرائيل ( بعثنا عليكم ) .

إذن ( بعث ) ومشتقاتها ، نلاحظ أن المادة لا تستعمل في القرآن إلا في بعث الآخـرة وما يشابهـه . وبعث الأنبيـاء وما يشابهه ، ونلاحظ أن الفعـل الماضي المجرد ( بعث ) استعمل سبع مرات ، خمسا منها للأنبياء عليهم السلام ، وواحدة لبعث طالوت ، وواحدة لبعث الغراب .

إذن كلمة ( بعثنا ) استعملت للأنبياء وما يشبههم ، ولم تستعمل للكفار أو غير المؤمنين ، أي أن الذين سيبعثون مضافون إلى إسم الجلالة سبحانه وتعالى ، وسيكونون من المؤمنين وليسوا من الكفار .

وفي احصائية لكلمة ( عبادا لنا ) : نجد أن كلمة ( عبد ) في القرآن عامة للمسلمين وغيرهم ، بل لا بد من ملاحظة عبد وعباد المضافة إلى ضمير المتكلم ، حيث نجد أن كلمة ( عبدنا ) استعملت خمس مرات للأنبيـاء عليهم السلام فقط ، وكلمة ( عبادنا ) استعملت إثنتي عشرة مرة للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين فقط ، وإن صيغة ( عبادا لنا ) لم تستعمل إلا في هذا الوعد ، فاختصاص الصيغ المتشابهة بالأنبياء والمؤمنين وزيادة هذه الصيغة بلام الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ( لنا ) يجعل الصيغة دليـلا أو قرينة قوية على أن المبعوثين من المؤمنين فقط ، ومن نوعية خاصة منهم ، ومما يعطي هذه القرينة المتقدمة شيئا من القوة أيضا أن الله سبحانه وتعالى استعمل مادة البعث في الوعيد لبني إسرائيل ، ولكن جعل الصيغة في وعد التسلط عليهم ( ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب ) وعبر عن المبعوثين بـ ( من ) ، وقد عرفنا أن هؤلاء المبعوثين هم الوثنيون والمجوس والنصارى والمسلمون ، بينما جعل الصيغة هنا ( بعثنا ) وهي صيغة استعملها للأنبياء وللأولياء فقط عبر عن المبعوثين بـ ( عبادا لنا ) ، وهو تعبير فريد لم يستعمل ما يشبهه في الإضافة إليه تعالى إلا في الأنبياء والمؤمنين ، نعم ورد استعمال ( عبادي ) لغير المؤمنين أيضا ولكنه استعمال يجيء دائما في مقابل دعوى العبودية لغيره تعالى . إذن : إن الذين سيتولون تدمير يهود هم من المؤمنين ، لما مر من الشرح .

وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ولا على الرومان لأنهم جميعا من الوثنيين ، وينطبق هذا الوصف على رسول الله وأصحابه الذين جاءوا إلى المدينة وليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي ، وكان من أول أعماله صلى الله عليه وسلم في المدينة إبرام المعاهدة السياسية بينه وبين يهود والتي نصت على أن يهود أمة ، وأن المسلمين أمة . فلما غدر يهود ونقضوا العهد كعادتهم ودأبهم سلط الله عليهم المسلمين فجاسوا خلال الديار اليهودية وتغلغلوا فيها وأزالوهم عن المدينـة وخيبر وتيماء ، فزال سلطانهم ، وتم تدمير فسادهم من خلال معارك بني قريظة وبني النضير ومعارك خيبر الشهيرة ، وتأتي سورة الحشر لتؤكـد هذا المعنى في قوله تعـالى في وصف معـارك المسلمين مع يهود في المدينـة ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فأعتبروا يا أولي الأبصار ) [ الحشر : 2 ] . و " الحشر " هنا هو إخراج يهود من الحجاز تمهيدا لحشرهم في ديار الشام للإفساد الثاني والعلو الكبير - كما هو الآن - ثم التدمير .

وقفة عند بعض معاني الآية

( أولي بأس شديد ) : أي أولي مكروه شديد ينزلونه بالعدو ، والبأس والبأساء بمعنى المكروه والشدة ، ويستعملان في النكاية بالعدو كما في مفردات الراغب الأصفهاني ، بينما ( أولو قوة ) تعني أولي وسائل حربية وجنود ، فالقوة في مجال الحرب تعني المعاون من خارج النفس كما ذكر الأصفهاني أيضا ، ولذلك وردا في القرآن معطوفين في قوله تعالى ( قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ) [ النمل : 33 ] ، أي نحن أولو سلاح وجنود ، وأولو مكروه ننزله بالأعداء . إن وصف الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المبعوثين على يهود بأولي بأس شديد دون أولي قوة ، له بعدان :

الأول : إن الغرض الأساسي في وعد يهود بالعقوبة هو بيان أن هؤلاء المبعوثين ، سينزلون المكروه الشديد بهم ، وهو يتناسب مع ذكر البأس .

الثاني : إن عدم ذكر قوة هؤلاء المبعوثين والتي تعني وسائل حربهم وكثرة جنودهم أمر مقصود ، لأنهم قد لا يملكون هذه الكثرة ولا يكونون أولي قوة كثيرة ، ومع ذلك فهم أولو بأس شديد ، وهذا هو حال المسلمين عندما قضوا على إفساد يهود الأول في صدر الإسلام ، وهو حالهم عندما سيقضون عليهم ، ويتبرون علوهم الكبير بإذن الله في المرة الثانية .

( فجاسوا خلال الديار ) : استعمل القرآن الكريم وللمرة الوحيدة هذا التعبير الذي هو في اللغة العربية كالمصطلح العسكري لدخول المقاتلين وهم يتتبعون بقايا مقاتلي العدو ، أي سيترددون بين بيوت يهود لتتبع مقاتليهم وهو أدق تعبير من القضاء على القوة القتالية ليهود ، وهو بالضبط ، ما فعله المسلمون عندما بعثهم الله على يهود في صدر الإسلام .

(وكان وعــدا مفعــولا) : لم يستعمـل القـرآن الكريم هذا التعبـير إلا في هذا الموضـع ، واستعمل تعبيرين قريبين منـه ، أولهما في نفس سورة الإسراء وبعد قوله لبني إسرائيـل (فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) [الإسراء : 104] ، وقال تعالى (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العـلـم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعـولا) [الإسراء : 107-108] ، وثانيهما في خطابه تعالى لمشركي قريش بعد تشبههم بفرعون وذكر ما حل به (فكيف تتقـون إن كفرتم يوما يجعـل الولدان شيبا * السماء منفطر به كان وعده مفعولا ) [المزمل :17 - 18] .

أما قوله تعالى ( سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ) فهو حكاية لقول العلماء في حق القرآن . فيبقى إستعمالان من قبل الله تعالى لـ " الوعد المفعول " ، أحدهما إنذار لفراعنة قريش بوعد اليوم الآخر الذي لا يطاق ، والثاني إنذار ليهود بيوم المسلمين عليهم الذي لا يطاق .

الفرق بين معنيين

الفرق بين فعل ( فجاسوا خلال الديار ) الذي يوحي بسرعة هزيمة يهود وسهولة القضاء عليهم وبين أفعال الثانية ( ليسوءوا ، وليدخلوا ، وليتبروا ) التي توحي بضراوة المقاومة وترسم للمواجهة صورة عنيفة ، لا يُهدّئها دخول المسجد في وسطها ، بل يأخذ منها عنف التحدي وفرحة الإنتصار .

تأمل في الإفسادين والعلو الوارد في الآية ترى أن الله سبحانه وتعالى تكلم عن إفسادين لبني إسرائيل ، وعندما تكلم عن العلو ، لم يقل : ولتعلن علوين كبيرين ، وإنما قال ( ولتعلن علوا كبيرا ) . إذن سيكون العلو الكبير مرة واحدة مصاحبا لأحد الإفسادين ، والمتأمل للإفساد الأول يجد أنهم كانوا قبائل ليس لها سيطرة على من حولها ، ولذلك لم يتمكنوا من العلو ، وأما المرة الثانية والتي يعيشونها الآن ، فإنهم قد علو علوا كبيرا ، وسيطروا على من حولهم من المسلمين ، بدعم من دول الكفر مجتمعة ، وسيطروا على الأرض المقدسة وقتلوا المسلمين شيوخا ونساء وأطفالا ، فمن معاني العلو قمة الفساد كما قال تعالى في حق جبروت فرعون ( إن فرعون علا في الأرض ) [ القصص : 4 ] . إذن العلو الكبير لم ينطبق تاريخيا إلا على علو يهود في هذه المرة التي تأتي مع الإفساد الثاني في الأرض .

الإفساد الثاني:

التدمير الأول كان إخراج يهود من الحجاز . فخرج قســم منهـم إلى (أذرعات) من أرض الشام حتى تبدأ المرة الثانية من إفسادهم وعلوهم ، يقول الله تعالى ( وكان وعدا مفعولا ) [الإسراء :5] ، يعني أنه تم تدمير الإفساد الأول في عهد النبي ، والوحي ينزل ، وأتمه أصحابه من بعده . وتبدأ الآيات بعد ذلك تتحدث عن المرة الثانية في الإفساد يصاحبه العلو الكبير ، فتخبر الآيات أن الله سبحانه وتعالى سيجعل ليهود الكرة عليهم ، على من ؟ على الذين جاسوا خلال الديار أول مرة ، ( والكرة ) الدولة والسلطة . وحين أراد الله ليهود أن يكروا استعمل كلمة ( ثم ) . وثم : كما هو معروف ، معناها العطف مع التراخي والمهلة . فهل كر يهود في التاريخ على البابليين ؟ ، وكانت لهم دولة وسلطة عليهم ؟ لم يحدث ذلك في التاريخ ، ولن يحدث الآن ولا في المستقبل ، حيث إن البابليين قد إنقرضوا من الدنيا كأمة ، وليس لهم كيان يعرفون فيه ، أو دولة يعيشون فيها . وحاشا لله أن لا يصدق القرآن أو يكون خبره غير محقق . إذن لا بد أن تكون الكرة على أبناء من جاسوا خلال الديار ، وهم المسلمون أو العرب المسلمون ، فقد كر يهود على بلاد الشام وفلسطين منها . وهذا هو الذي حدث ونعيشه الآن ، ويعاني منه المسلمون كل المسلمين ، وما ينطبق على البابليين ينطبق على الآشوريين والكلدانيين وغـيرهم من الدول التي عاقبت يهـود عبر التاريخ .

واقرأوا معي بقية الآيات التي تمضي فتصف الواقع الذي نعيشه وتعيشه دولة يهود ، إذ بعد أن جعل الله الكرة ليهود علينا ، يقول الله تعالى ليهود (وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) [الإسراء : 6] . وهنا نسأل مرة أخرى : هل أمد الله يهود بأموال وبنين غير هذه المرة ؟ لم نعرف أن ذلك قد حدث في التاريخ ، ويهود منذ أن غضب الله عليهم وهم في بلاء متصل وعذاب مستمر ، فقبل الإسلام كان عذاب البابليين لهم والرومان . وبعد الإسلام أخرجهم المسلمون من الجزيرة ثم بدأت أوروبا تعذبهم في إسبانيا وفي بقية أقطارها حتى جاء المسلمون فأنقذوهم من الإسبان ، واستمر العذاب لهم حتى هذا القرن . ولقد عاش يهود في ظل دولة الإسلام عبر القرون آمنين مطمئنين ، تحفظ لهم دماءهم وأموالهم ، ولكنهم لم يحفظوا الجميل .

وحتى نرى مبلغ صدق الآية ، ونرى إعجازها بأعيننا نجد دولة يهود اليوم تعيش على البنين الذين يأتونها من أطراف الأرض ليمدوها بالجند ، وفي هذه الفـترة من روسيـا بالـذات ، وترى الأمــوال من دول الغرب تأتيها بمساعدات مذهلة حتى تستمر في عدوانهـا وطغيانهـا وجبروتهـا . ثم يقول الله سبحانه وتعـالى ( وجعلناكم أكثر نفيرا ) ، ولذلك فإن أكبر قوة عسكرية في الأرض تساند دولة يهود في حال نفرتها وحربها ( أمريكا والحلف الأطلسي ) .

إذن هذا هو العلو ، فما بال الإفساد ؟ وحتى يتحقق الإفساد ، فنرى يهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم ( من هتلر وغيره ) ، ولذلك يحذرهم الله فيقول لهم ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] . وهذا الإحسان دنيوي يجازون عليه في الدنيا ، كما جاء في قوله تعالى ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) [ البقرة : 200 ] . ويهود قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها ويتموا الأطفال ، وسجنوا النساء ، وهدموا البيوت ، واغتصبوا الأرض وأقاموا المستعمرات ، وحرقوا الأقصى في (21 / أيلول / 1969م ) ، والأقصى عند الله عظيم ! ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام ، والخليل عند الله هو الخليل . وأرتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله فمزقوه وداسوه بالأقدام ، وقتلوا المصلين وهم ساجدون بين يدي الله ترتفع تسبيحاتهم إلى الله في فجر يوم الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان المبارك 1414هـ ، فقتلهم كان في فجر يوم مبارك في شهر مبـارك في مسجد من أعظم المساجد عند المسلمين . في حجر أبي الأنبياء والمرسلين الذي أتخذه الله خليلا (واتخذ الله إبراهيم خليـلا) [النساء : 125] .

ولذلك فإن الله سيسرع في عقوبتهم لأن الله يمهل الظالم كما جاء في الحديث حتى إذا أخذه لم يفلته . وقد أخذوا لبنان غدرا وخيانة ، وارتكبوا فيه ما لم يرتكبه أحد من البشر قبلهم هم و ( الموارنة ) الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين ، والموارنة الذين يرتكبون جرائمهم باسم الصليب -وهذا احتقار المسيح عليه السلام- والمسيح منهم براء . ولقد أعلنت في خطابي أمام جماهير المسلمين في عمان في يوم عيد الأضحى المبارك ( 1402هـ / 1982م ) أن الموارنة لم يعودوا أهل ذمة في ديار المسلمين ، وأنهم نقضوا العهد الذي أعطاه عمر -رضي الله عنه- لنصارى بلاد الشام في ( العهدة العمرية ) ، وبذلك تسبى نساؤهم وذراريهم كما فعلوا في المسلمات وأطفال المسلمين في مخيمي صبرا وشاتيلا .

وهنا تأتي عقوبة الله لهم على ما أقترفوه من الإثم والجرائم ، بتفسير من الآيات أن دولتهم لن يطول إفسـادها ولا علـوها ، فيقـول الله ( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبـيرا ) [ الإسراء : 7 ]. وهنـا حين يخـبر الله عن زوال دولتهم ، استعمل حرف ( الفاء ) للعطف ، ولم يستعمل ( ثم ) . والفاء للعطف مع التعقيب . والتعقيب لكل شيء بحسبه وما يناسبه ، وهو يدل على السرعة في حصول المقصود ( فإذا جاء وعد الآخرة ) ، أي لذهاب علوهم ، تصبح وجوه بني إسرائيل سيئة . ويبشرنا ربنا جلت قدرته ، أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ، وهذه المرة الأولى :

الفتح العمري للقدس ودخول المسجد حين دخله صلحا ، والذي يبـدو من سيـاق الآية أن الأقصى والقدس وفلسطين سترجع على ثلاث مراحـل :

المرحلة الأولى : إساءة الوجه . . وهذه تكفلت بها الإنتفاضة التي لم يصنعهـا أحدا من القيـادات الفلسطينية وإنما هي من تدابير الله . و " الفاء " هنـا في قوله سبحانه وتعالى ( فإذا جاء وعد الآخرة ) يسميها علماء النحو " الفاء الفجائيـة " ، فسيتفاجىء العالم بالأمر ، فهل هذا الأمر هو قيام الخلافة الإسلامية من جديد ؟؟ .

المرحلة الثانية : هي دخول الأقصى كما دخله عمر - رضي الله عنه - حيث دخله بصلح ، فهل ستؤدي هذه المفاوضات التي تجري الآن بين حكام الخيانة من العرب وبين يهود إلى دخول المسجد وإرجاع بعض القدس ؟ .

المرحلة الثالثة : هي التدمير الكامل لدولة يهود . وفي هذه الآية إشارة إلى الأسلحة المتطورة ، فإن السلاح الذي يجعل العمارات الشاهقة على مستوى التراب هي الأسلحة المتطورة وليست الأسلحة التقليدية .

والمرة الثانية : هي هذه التي نحن على أبوابها ، حيث سيدخل المسلمون المسجد فاتحين للمرة الثانية ، ثم يقرر الله أننا سنتبر أي ندمر ونهلك علو يهود المادي والمعنوي .

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فلسطين لم تعرف العمارات ذات الطوابق ، التي تصل إلى عشرين طابقا أو أقل أو أكثر ، إلا في ظل اغتصاب يهود لها ، ولذلك فإن هذه العمارات الشاهقة التي يقيمونها في الأرض المباركة سيلحقها الدمار والخراب . ثم تمضي الآيات فتحذر يهود من محاولة العودة للإفساد والتعالي ، فيقول الله (وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا) [الإسراء : 8] ، وتأتينا البشرى من الله بعد أن يفهمنا ربنا أن القرآن يهدي إلى الطريق السوي والحياة الصحيحة ، تأتينا البشرى بالنصر فيقول (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا) [الإسراء : 9] . وفي آخر سورة الإسراء آية أخرى تتعلق بهـذا الأمر ، وهي قوله تعالى (وقلنا من بعــده لبني إسرائيل أسكنوا الأرض فإذا جاء وعــد الآخرة جئنا بكـم لفيفا) [الإسراء : 104] ، أي تفرقـوا في الكرة الأرضية وهذا من غضب الله عليهم ، و " لفيفا " أي جماعات .. جماعات ملتفة ( وهكذا يأتي يهــود مهاجرين إلى فلسطين ) . وفي بقيـة الآية إنــذار ليهود وبشرى لنــا ، فيقول الله ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) [ الإسراء : 105 ] . فإذا ربطنا هذه الآيات وتفسـيرها بالحديث الذي يدلنـا على صدق النبوة ، ومعجـزة الرسـول صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا عن قتال يهود فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم وهو قول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الشجر والحجر : يا مسلم ، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر يهود " . والغرقد شجيرة صغيرة كثيفة الأغصان تزرع الآن في كل أنحـاء فلسطين ولا يزال أهل ( النقب ) بفلسطين يسمونها ( الغرقد ) ، ولها أسماء أخرى في بقية أنحاء فلسطين ، ويزرعها يهود بأيديهم .

وهذا هو السبب في أنه لم تنجح المحاولات لتثبيت دولة يهود . وذلك أنه منذ سنة 1948م ، وكل محاولة للصلح وتثبيت دولة يهود يفشلها يهود انفسهم ، وذلك لأن يهــود لا يعالجون أي أمر إلا بالحقد والتـآمر والخديعـة . ويقرر الله أن لا عقـل عندهم فيقـول (لا يقاتلـونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهـم شـديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون) [الحشر : 14] . وذلك كله يجري حتى يأتي اليوم الموعود يوم تتخلص المعركة من الأيديولوجيات المنافية للإسلام . وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث قتـال يهود أن الحجر والشجر سينطق ويقـول :"يا مسـلم ، يا عبد الله ، خلفي يهودي فتعال فأقتله" . إذن لن يكون قتال النصر في فلسطين قتالا يمينيا ولا يساريا ، وإنما سيكون قتالا إسلاميا في سبيل الله كما كان دائما قتال النصر للمسلمين، ولذلك لا عجب أن لا ننتصر على يهود حتى الآن ، لأننا لم نقاتل بالإسلام ، فلو إنتصرت الأنظمة العربية لكذب القرآن !!. لأنها أنظمة كافرة ، تحكم بالربا ، وتبيح الزنا والخمر والميسر ، ولا تستعد لقتال عدوها ، وقد ألغت الجهاد من حياتها وبرامجها ، ويعيش حكامها حياة غير إسلامية . وكان من المستحيل أن تنتصر الثورة الفلسطينية بوصفهــا التي كانت عليه ، لأنها لم تتخذ الإسلام طريقــا وأسلوبا ومنهاجــا . والله يقول ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ محمد : 7 ] ، فما نصروا الله حتى ينصروا .
 
الأرض المباركة

الآية السابقة الذكر في سورة الإسراء قد نصت على بركة الأرض التي تحيط بالمسجد الأقصى ، وكذلك آيات أخرى نصت على هذه الـبركة مثل قوله تعالى في سورة الأنبيـاء في حق الخليل إبراهيم عليه السلام (ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) [الأنبياء : 71] ، وقوله (وجعلنا بينهم وبين القـرى التي باركنا فيهـا قـرى ظاهـرة وقدرنا فيهـا السير سيروا فيها ليـالي وأياما آمنين) [سبأ : 18] ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى (ولسليمان الريح عاصفـة تجري بأمره إلـى الأرض التي باركنا فيها) [الأنبيـاء :81] . وقوله تعالى (وأورثنـا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها) [الأعراف : 137] . وبالإضافة إلى عشرات الأحاديث النبوية الشريفة .

والبركة هي الزيادة في كل شيء . وليست بركة هذه الأرض مادية فقط ، وإنما بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية بركات معنوية تتمثل في أنها عش الأنبياء، ولذلك فكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه في بيت المقدس عند وفاته بإعتباره عش الأنبياء ، وكانت لم تفتح بعد . وهي مهبط الوحي ، وهي مسرى النبي ومعراجه صلى الله عليه وسلم منهـا ، وهي القبلـة الأولى ، فقد صلى المسلمون إلى مسجدها أربع سنـوات ونيف ، منها ثلاث سنوات في مكة حيث فرضـت الصلاة في السنة العاشرة من البعثـة ، فأمر النبي والمسلمون معه أن يصلوا إلى القدس ، وأن يجعلوا الكعبة بينهم وبين القدس ، وصلى سبعة عشر شهرا إلى القـدس في المدينـة . ومسجدها تشـد إليـه الرحـال ، كما ورد في الحديث الذي رواه البخـاري ومسلم عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم :"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" .

ومن بركة هذه الأرض أنه حينمـا يبتعد المسلمون عن محـور عزهم ومركز قوتهم ، وهو الإسلام ، يضعفون ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم ، فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى ، وعندها يتحرك المسلمون حركة حياة جديدة ، وينفضون غبار الهزيمة فيعملون لاستخلاص هذه الأرض ، فعن طريق استخلاصها يتم توحيد الأمة .

ولذلك لن يصل أحد إلى حل عادل مع يهود وأعوانهم حتى يأتي أمر الله ويتوحد المسلمون ويعود الإسلام محركا للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله .

وقد ظهرت بركة هذه الأرض في الحروب الصليبية ، إذ بعد أن أخذها الصليبيون وظنوا أن الأمر قد استقر لهم ، كانت حروبهم سببا في توحيد المسلمين من جديد ، فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المبعثرة ، وأخذ الراية منه صلاح الدين ، فكانت حطين النصر المبين ، وكانت معركة القدس فيما بعد ودخلها رحمه الله ، فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجدها إلى قدسيته وطهره .

حقوق الطبع محفوظة لكل مسلم   2006 ©