الصفحة الرئيسية > المؤلفات > زوال إسرائيل حتمية قرآنية > 2 > 3

( 3 )
 
رباط أهل الشام

وقد قدر لأهل الشام وفلسطين منها ، أنهم مرابطون إلى يوم القيامة حيث الكفار لا يتركون الأرض المباركة يستقر أهلها وهم يريدون إزالة مسجدها ليقيموا عليه الهيكل اليهودي .

روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم :" إن أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإمائهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون ، فمن نزل مدينة أو قرية من المدائن فهو في رباط ، أو ثغر من الثغور فهو في جهاد " . وقدر أهل الشام كذلك ، أن ينتقم الله بهم من أعدائه . فعن خريم بن مالك :" إن أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده ، وحرام علي منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم ولا يؤتون إلا هما وغما " . رواه الطبراني مرفوعا وأحمد موقوفا ورجاله ثقات .

عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول :" الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة ، فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئــذ " . رواه الحاكـم وقـال صحيـح الإسنـاد . وقد روى أبو بكر بن شيبـة عن أبي الزاهرية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" معقل المسلمين من الملاحم دمشق ، ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطــور " .

وعلى هذا فالأرض المباركــة بركتها بالإضافــة إلى الأشيــاء المــادية التي ذكرها المفسرون من الثمار والأشجار والأنهار والأرض المعطاء والسهل الخصيب والجبال العالية والأرض المنخفضة التي تجعلك تنتقل في ساعة أو أقل من مستوى سطح البحر إلى العلو الشاهق إلى الغور المنخفض ، فهناك البركة المعنوية ، والبركة المادية تتصاغر أمام البركة المعنوية ، وباركها الله فجعلها القبلة الأولى يصلي إليها المسلمون ، وأسرى بنبيه إليها ، وعرج من مسجدها إلى السماوات العلى ، وجعل مسجدها الأقصى تشد إليه الرحال ، وهي عش الأنبياء ، وهذا مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذهب بنفسه لإستلام القدس ، ولم يذهب لإستلام المدائن ولا مصر ولا العراق رغم أنها بلاد هامة غنية .

الوطن البديل

حين يتحدث يهود وأعوانهم عن (الوطن البديل) للفلسطينيين فهم يظنون أن أي أرض يمكن أن تستبدل بالأرض المباركة ، ويظنون أن الأمر أمر اسكان (لاجئين) أو استقرار مشردين ، وهم يتجاهلون أن هذه الأرض لا تدانيها أرض أخرى ، ولا يمكن أن يقـوم مقامها وطن بديل في أي بقعـة من بقاع الكرة الارضية، إذ أن هذه الأرض مرتبطة بعقيد المسلمين ، سجلت في كتاب الله بوصفها القبلة الأولى ، وبوصفها مسرى النبي ومعراج الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبوصفها الأرض المباركة ، ولذلك فهي لا تخص الفلسطينيين وحدهم ، ولا تخص العرب وحدهم ، بل هي تخص المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا ، وما دام كتاب الله (القرآن) موجودا على الأرض يتلى ، وفي الأرض مؤمنون فليس هناك إستقرار لدولة يهود ، وهي في طريقها لأن تصبح من مخلفات التاريخ كما أصبحت دولة الصليبيين من قبلها من مخلفات التاريخ تؤلف الكتب عن أسباب زوالها ، ويكتب الباحثون أبحاثهم ويعطي العلماء آراءهم في ذلك ، إنهم ينسون الحقيقة الأزلية وهي استحالة أن يملك هذه الأرض غير المسلمين وأن تبقى في حوزة أعدائهم طويلا .

والواقع أن العالم كله لا يفقه القضية الفلسطينية أو القضية اليهودية بالأحرى ، وإنما كل فئة تنظر إلى القضية من زاوية معينة تتفق مع مصلحتها ، وهذه النظرة بالنسبة لمصالحها صحيحة . فالغرب ينظر للقضية على أنها امتداد للحروب الصليبية وأن يهود أداة في يديه لتمزيق الوطن الإسلامي والسيطرة على بلاد المسلمين وتهديدهم حتى لا يفيقوا مرة أخرى ، فيتصدوا لقيادة الدنيا وإنقاذها مما تعانيه . والشيوعية ( قبل أن تزول ) تنظر إلى القضية على أن بقاء دولة يهود في بلاد المسلمين أمر ضروري لإيجاد التناقض الطبقي حسب الفكر المادي ، وهي مع بقاء دولة يهود ، و تحارب الطبقة الحاكمة في إسرائيل حربا طبقية بإعتبارها عميلة للغرب ، ويهمها أن يبقى التناقض وعدم الاستقرار في المنطقة ، لأن ذلك حسب وجهة نظرها يغذي الحركة الشيوعية وينميها ، وقد ثبت فشل هذه النظرية عمليا وسقطت الشيوعية مع سقوط الإتحاد السوفياتي .

وأهل البلاد الذين أخرجوا من ديارهم ( الفلسطينيون ) ، ينظرون إلى القضية من زاوية أنهم شعب ظلم وشر وأضطهد ، فهم يريدون حياة الإستقرار في الأرض التي ولدوا فيها أو نبت آباؤهم فيها ، أو دفن أجدادهم في ترابها فهم يحنون بفطرتهم إليها ولا يريدون في الدنيا أرضا تكون بديلا لها وهذا صحيح . ولكن هذه النظرات المختلفة للقضية من زواياها المختلفة ليست هي القضية . وإنما القضية تتعلق بالعذاب المكتوب على اليهود عبر التاريخ نتيجة لسوء تصرفهم ولحقدهم على الإنسانية .

حتمية زوال دولة إسرائيل

لقد حاول العالم منذ 1948م والقوى الكبرى في العالم أو الغرب على وجه التخصيص ، أن يثبت إسرائيل دولة قوية ، فوضع الحلول وحاك المؤامرات . ولكن المؤامرات تفشل والطبخات تحترق ، وذلك بقدرة الله وثم معاونة يهود أنفسهم حيث يرفضون كل ما يعرض عليهم حتى يأتي يومهم الموعود ، وقدرهم المرصود فتزول دولتهم بآثامها وشرورها . وإن الغرب اليوم يحاول جاهدا لإنقاذ دولة يهود من مصيرها المحتوم وقدرها المرسوم رغم أنفها ، ولكن يهود يتمردون على من أوجدهم ، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وصدق الله إذ يقول في حقهم ( لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ) [ الحشر : 14 ] .

فإذا تأملنا هذه الآيات في ضوء حديث البخاري ومسلم - الذي يقول فيه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه :" لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فليقتلهم المسلمون "  . علمنا المصير الذي ينتظر دولة يهود .

حتمية دولة زوال إسرائيل في ضوء آيات المائدة

كان الله قد شتت يهود في الأرض بعد موسى عليه السلام ، ولم يحدث لهم تجمع ولا سلطة يعتد بها إلا في فترات قصيرة مع بعض انبياءهم ، وحين تجمعوا في أرض الجزيرة العربية ، في أرض الحجاز ، وكانوا يعلمون من كتبهم ، وأخبار أنبيائهم أن النبي الأخير سيخرج من جزيرة العرب ، فرحلوا إليها قبل البعثـة بفـترة طويلة عل هذا النبي يكون من بينهم ، ولقد نمت قوتهم في هذه الفترة إقتصاديا ، فكانت التجارة والزراعة في المدينة وما حولها وفي خيبر وتيماء بأيديهم . وكانوا يكونون مجتمعا مستقلا بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما وصل إلى المدينة وكون نواة الدولة الإسلامية الأولى ، عقد مع يهود معاهدة سياسية حدد فيها العلاقات بين الطرفين وكيفية التعامل .

فلما نقض يهود العهد والميثاق ، كدأبهم ، وتآمروا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، وعلى الدولة الجديدة ، إضطر إلى محاربتهم وهدم واستئصال إفسادهم في الجزيرة العربية كلها ، وهكذا كان .

وأما المرة الثانية من الإفساد المصاحب بالعلو الكبير فهذه التي نعيشها الآن وقد بينت ذلك مفصلا في تفسير سورة الإسراء في الصفحات السابقة .

عداء النصارى ليهود

بقي يهود بعد التدمير الأول متفرقين في الأرض ، يعيشون في كنف الشعوب والأمـم ، وأصــبح لهـم في كـل مدينــة كبـيـرة في العـالم حي منغلـق يعـرف باسمهــم ( غيتو ) . وكانت وسيلتهم في مد نفوذهم هي الربا والإحتكار والغش والقمار ونشر الفساد والزنا . إذ أن ( اليهودي ) في عقيدته ليس من كان أبوه يهوديا ، بل من كانت أمه يهودية . وهذه العقيدة اليوم تثير مشاكل في زعزعة دولة يهود ، إذ إن كثيرا ممن ضحوا في سبيل كيان ما يسمى بـ ( دولة إسرائيل ) وتزوجوا غير يهوديات ، لا يصح لأبنائهم أن ينالوا ( شرف ) الإنتماء إلى يهود ، أما من كانت أمه يهودية فينال (شرف) الانتساب إلى اليهود بغض النظر عن الأب من أي جنس أو دين أو لون كان .

وهكذا عاش يهود في الأرض مشتتين ، وقد سبب ذلك لهم أن الشعوب أخـذت تضطهدهم وخصوصـا النصـارى الذين كانوا يوجهون بقيادة الكنائس المختلفـة ، وكانت معاداة النصارى ليهود معاداة مبنية على العقيدة لدى الطرفين ، فالمسيح الموعود في عقيدة يهود لم يأت بعد ، وهم لا يعترفون بالمسيح عليه السلام، بل اتهموا مريم عليها السلام بالزنا مع يوسف النجار - والعياذ بالله - ، وافتروا أن عيسى عليه السلام هو ابن ليوسف النجار ، وأما مسيحهم الموعود فهم ينتظرونه حتى اليوم ، مما جعل يهود في عهد عيسى عليه السلام ( وقد أرسل إليهم ) يتآمرون عليه ويوشون به لدى السلطة الرومانية التي حاولت أن تلقي القبض عليه وتصلبه ، ولكن الذي حدث أن الذي وشى بالمسيح عليه السلام هو يهوذا الأسخريوطي ، وكان يشبه المسيح عليه السلام وهو الذي تم القبض عليه وهو الذي عذب وصلب . ويسجل الله هذه الحادثة في القرآن الكريم ويبين الله أسباب غضبه على يهود فيقول تعالى ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين إختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) [النساء : 155-159] .

لذا في عقيدة النصارى أن يهود قد صلبوا المسيح ، وجاءت نصوص في الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى حاليا تحمل يهود دم المسيح ، وأن اللعنة تلحقهم إلى يوم الدين ، ومن هنا تركزت العداوة بين يهود والنصارى عبر التاريخ . ولما كان النصارى هم أصحاب السلطات في الغرب (أوروبا وأمريكا) فعمدوا إلى يهود فاضطهدوهم وعذبوهم وقتلوهم . فلم تبق دولة أوروبية إلا وأضطهدت يهود باسم المسيحية .. في إنجلترا ، في فرنسا ، في ألمانيا ، في إيطاليا .. وغيرها ، كانت تسن القوانين لإضطهاد يهود ، وتضيق الخناق عليهم بحيث تكون حياتهم قاسية مريرة . وكان يهود يردون على هذه القوانين بأساليبهم الخاصة ، بتخريب اقتصاد تلك الدول بالدس والخديعة وتخريب الأخلاق وإشعال الحروب .

يقـول الدكتور صابر عبد الرحمن طعيمة في كتـابه (اليهود بين الدين والتاريخ) :" مهما اختلف الرأي حول البواعث الحقيقية لعمليات الطرد والتعذيب التي كان يلقاها يهود في أوروبا تضييقا واضطهادا من قبل مسيحيي أوروبا ، فإنه حدث وخاصة في عام (1348م) و(1349م) أن قام المسيحيون بموجة من الاضطهاد ليهود ، كان فيها المسيحيون يتخذون من قتل يهود وسيلة للتقرب إلى الله الذي يكرههم ويمقتهم . كان يهود يبذلون جهدهم لمقاومة موجات الإضطهاد الأوروبي ، فإن موقف الشعوب الأوروبية بمختلف اتجاهاتها كانت ترى التخلص من يهود تحررا من الخطر الرابض وسط التناقض الأوروبي والمخطط له من قبل يهود لإستبقائه وتعميق أسبابه .

وإني أقدم أمثلة لما قامت به دول أوروبا المسيحية من عذاب لليهود على مر التاريخ " .

- ألمانيا تضطهد يهود :

لقد حدث في أغسطس سنة 1401م أن أصدر الملك روبرشت (1400-1410م) قرارا بطرد جيمع يهود من إقليمي الراين وبافاريا ، كما حرص الملك على وجوب إرتداء اليهود ملابسهم الخاصة التي سبق أن ابتدعهـا عام 1210م البابا (ينوسينت الثالث) ، ومن ثم أخذت هذه العادة تنتشر في كثير من الدول الأوروبية .

وظل يهـود عرضـة للتقتيـل والحرمـان والـتشريد حتى جـاء فريدريك الثـالث (1470-1493م) فشعر بعبء الضائقة المالية التي تعانيها البلاد بسبب القيود التي فرضتها الكنيسة وأصحاب الجاه من الإقطاعيين على الأهالي ، سواء أكانوا مسيحيين أم يهودا ، فتدخل القيصر وأعلن حمايته ليهود ، ولكن حدث أن وجد طفل لم يتجاوز الثانية من عمره مقتولا في ترنيت بإيطاليا عام 1445م ، وأتهم المسيحيون اليهود بقتله، وأنتشرت المذابح هناك ، ومنها إنتقلت إلى مدينة نورنبرغ الألمانية حيث تعرض يهودها لكثير من الأعمال الوحشية عام 1476م .

وحدث أن مجلس مدينة نورنبرغ تقدم برجاء عام 1473م إلى القيصر فريدريك الثالث بطرد جيمع اليهود من المدينة ، فأهمل القيصر هذا الرجاء حتى جاء القيصر ماكميلان الأول ( 1493 - 1519م ) ، وأصدر في يوليو عام 1498م قرارا بإجابة هذه الرغبة وطرد اليهود نساء ورجالا من المدينة .

ولم يقف طرد يهود وإجلاءهم عند هذا الحد ، بل أخذت المدن الأخرى إلى التسابق للتخلص منهم . وحدث عام 1509م أن شخصا يدعى يوحنا كورون (كان في الأصل جزارا يهوديا ثم ترك اليهودية إلى المسيحية) تقدم إلى القيصر ماكميلان ورجاه مصادرة جميع الكتب اليهودية وإتلاف تلك التي جاءت فيها إساءة للمسيحية . وحاول يوحنا هذا كسب العالم الإنساني رويشلين إلى صفه ، إلا أن رويشلين رفض التعاون رغبة في الإبقاء على الكتب اليهودية فسبب موقفه هذا خصومة حادة مع جماعة الدومينيكان في كولونيا (وكانوا متعاونين مع يوحنا) فأخذوا يكيدون للعالم رويشلين ، ويقاومون الرغبة التي دعت إلى تعليم اللغة العبرية ، وتوجه رويشلين إلى دراسة المؤلفات العبرية من الناحية اللغوية . وقد إنتصر يهود في هذه المعركة العلمية الأدبية حتى أن البابا ليو العاشر سمح للطباع المسيحي دانيال روتنبرغ بطبع الطبعة الأولى للتلمود ، إلا أن رويشلين ، بالرغم من هذا التوفيق ، كان قد أصبح في موقف حرج جدا بسبب كيد الدومينيكان ودسائسهم مما إضطر إلى طلب المساعدة ووساطة اليهودي يونس فودة الطبيب الخاص للبابا بالتدخل في سبيل فض هذه الخصومة . ولم يقف رويشلين وحيدا في هذه الخصومة بل سانده المصلح البروتستانتي مارتن لوثر (1483-1546م) ، وخاصة من الناحية اللاهوتية ، فاليهودي في رأي لوثر يجب أن يعتنق المسيحية لأنه أخ للمسيح وأن المسيح يهودي . إلا أن أمل لوثر في تنصير اليهود تلاشى ، فخاصم اليهودية لموقفها من التعاليم المسيحية اللاهوتية . وقد أثر موقف لوثر هذا من اليهود على وضع اليهود في أوروبا وإشعال روح العداوة ضدهم حتى عصرنا الحالي ، إذ كان رأي لوثر هذا من العوامل الهامة التي إمتزجت بنظرية التفرقة الجنسية النازية ، فأصبح اليهود إبان الحكم النازي (1933-1945م) هدفا لمختلف أنواع التعذيب والقتل نتيجة لتآمرهم على ألمانيا ومحاولة تخريبها .

- إنجلترا تضطهد يهود :

وحظ يهود في بلاد الإنجليز البروتستانتينية لم يكن أحسن حالا منه في البلاد الكاثوليكية ، وخاصة في القرن السادس عشر ، ففي سكسونيا وقع أول إضطهاد بروتستانتي على يهود وكان ذلك عام 1536م ، حيث طرد أمير الإقليم يوحنا فردريك يهود من إقليمـه . وفي عام 1539م سمح لهم بعبـور سكسونيا فقط ثم ألـغي هذا الإذن عام 1543م ، وقد استنـد الأمـير في قرارته هذه على تعالـيم مارتـن لوثر .

ولقد كان يهود يعملون ضد المسيحية في أوروبا ، وكانوا يرجعون كل تصرف لهم وكل سلوك غير طبيعي تصطدم به مصالح المجتمع الذي يعيشون فيه إلى خصائص الجنس اليهودي وتعاليم الدين اليهودي وإرادة الإله لهم بأن يكونوا سادة على (الأممين) ولا سيادة لأحد عليهم . ومن هنا كان لا بد للفكر المسيحي الأوروبي من أن يقوم بعملية مجابهة سريعة أمام خطر سيطرة يهود ، وبدأ كثير من المفكرين الأوروبيين الذين إستطاعوا أن يروا مدى ما يتعرض له المسيحيون في أوروبا ، وكذلك المعتقد المسيحي بآدابه وتعاليمه ، من خطر السيطرة اليهودية والمسخ التعصبي فقاموا يكشفون عن الظروف والميادين التي عملت على إتاحة الفرص لكي يعبر اليهودي عن مطامعه ونزعاته وتعلقه بأساليب المضايقة وتقديم الربا الفاحش ثم سيطرته على حركة التطور الصناعي ، وإدارة الأعمال ، وكانت الصفوة من مفكري أوروبا ومؤرخيهم التي هبت تحاصر الخطر اليهودي هي تلك المجموعة من المفكرين التي قامت من فرنسا وألمانيا ثم استطاعت أن تؤثر بفكرها المستنير في كشف النقاب عن الخطر اليهودي أمام باقي شعوب أوروبا .

- فرنسا تضطهد يهود :
وفي بعض مراحل القرن الثامن عشر والتاسع عشر ، أدى المفكرون الأوروبيون دورا نضاليا ضد السيطرة اليهودية على كل جوانب الحياة الأوروبية . ففي سنة 1845م ألف توسينال كتابا عنوانه (اليهود ملوك العصر ، تاريخ الإقطاع المالي) . وقد بين هذا الكتاب ما ظهر من فضائح مالية وإستغلال أناني للمالية الفرنسية في ذلك الوقت ، وما كان ليهود في ذلك من دور كبير ، وكيف أن يهود يقابلون بالإزدراء قوانين العدل وحقوق العاملين وذلك بما أخذ به يهود من أفكار التلمـود من جـواز إستغـلال غـير اليهـود . ونشر الكاتب الفرنسـي الكونـت غوبينو ( Gobineau ) في سنة 1854م بحثـا عنـوانه ( المسـاواة بين الأجناس البشرية ) ( Essai Sur linegalite des races humaines ) بين فيـه الفـرق بين الجنسـين الآري والسامي ، وقصد به أن يهاجم نشاط يهود السياسي . كما هاجم توسينال نشاطهم الاقتصادي المدمر . ثم جاء كـاتب ثالث فرنسـي فكتب سنة 1869م كتــابا عنـوانه ( اليهود واليهودية وتهديد الشعوب المسيحية ) . وصاحب هذا الكتـاب هو ( جينيوده موسو ) ، رجل من رجال الدين ، وقد حاول أن يبين خطر اليهود في ميدان الدين والثقافة . وقد أكد في كتابه أن اليهود لا يقيمون وزنا لأحد ، ولا يؤمنون بصحة ما يلتزمون به نحو غير اليهود من قسم أو يمين ، كما أن مصدر خطرهم يكمن في محاولتهم القضاء على الروحية في العالم المتدين وتفضيلهم المادة على الروح . وقد دفع هذا النشاط الأوروبيين إلى أن يبحثوا عن المؤلفات التي تساعدهم على فهم اليهود ، فأخذوا يقرأون كتابات العالم الألماني (أيزمجز) التي كتبها في القرن الثامن عشر عن تعاليم التلمود المعادية للبشر ، كما أخذوا يقرأون كتابات اليهود الذين تنصروا ، وفيها يكشفون النزعات الهدامة لبعض التعاليم اليهودية خاصة كتابات الأب ( جوزيف ليمان ) .

إذن إشتركت دول أوروبا جميعها في التعرض للخطر اليهودي الهدام . وفي مجتمع القرن التاسع عشر نرى أن رد الفعل يكاد يكون متشابها ، بل إنه أخذ يتبلور حتى رأيناه ينفجر في حركات شعبية ضد اليهود في ألمانيا وفرنسا والنمسا والمجر وبولندا ورومانيا وروسيا في أواخر القرن الماضي .

ففي ألمانيا نشر ( فيلهلم مار ) ( Marr ) وهو صحفي هامبورغ ، سنة 1873 رسالة صغيرة عنوانهــا ( انتصــار اليهودية على الجرمانيــة ) ، وقد لاحظ ( مار ) أن هذا الإنتصار إقتصادي في مظاهره ، إلا أنه وجد أن إختلاف يهود في الجنس هو الذي دفعهم إلى هذا الإنتصار بوسائل مالية ضالة منحرفة ، ورأى أن هذا السلوك يستتبع محاربة يهود وسلوكهم التخريبي . ولا شك في أن ( مار ) قد إعتمد في نظريته العنصرية على نظرية جرينو الفيلسوف السياسي الفرنسي . وقد هيأت الظروف سلسلة من الفضائح المالية في ألمانيا إشترك فيها يهود لجأوا لإستعمال هذا العداء العنصري ، حتى لقد أخذ به (بسمارك) في برنامجه السياسي سنة 1879م خاصة وأنه وجد خصومة عنيفة لسياسته الجمركية من حزب الأحرار الذي كان يتزعمه اليهوديان ( لاسكر وبامبرغر ) .

وسار بعد ذلك في ألمانيا العداء بين المسيحيين واليهود في عالم الفكر والسياسة جنبا إلى جنب . ففيلسوف ألمانيا السياسي ( تريتشكه ) ( Treitchke ) اخترع نظرية التعارض بين الآرية واليهودية ، ونشرها من كراسته في جامعة برلين ، وأوجد الجملة التي ذهبت مثــلا بين الألمــان :" أن اليهــود بلاؤنــا " ، كما سـاهــم الفيـلسوف ( نيتشـه ) في حركة تحتقـار اليهود في ألمانيـا . ولكن المرجع الكلاسيـكي عن نبـذ اليهـود كجـنس يتمثـل في كتـاب " أسس القـرن التـاسـع عشـر " ( Foundations of th 19th Century ) الذي كتبه عالم ألماني من مولد إنجليزي هو ( هوستون ستيوارت تشامبرلن ) سنـة 1898م . وقد حــل هذا الكتــاب مرجعــا إلى أن أخذ مكانــه كتــاب ( كفاحي ) الذي ألفه " هتلر " دستورا للحركة النازية .

ولم تكن هذه المؤلفات الفكرية عن السياسة الأوروبية لمناهضة يهود وأثرهم المفسد في الحضارة الصناعية البرجوازية ، أثناء القرن التاسع عشر إلا ينابيع لحركة المقاومة ضد اليهود في أوروبا سواء كانت حزبية أم شعبية ، فقد أصبحت مراجع لتبرير التكتل الأوروبي ضد الخطر اليهودي . وتنقلت الأفكار الأساسية عن ذلك الخطر على الجنس والسياسة والإقتصاد والدين بين دول أوروبا على مختلف أنظمتها الاجتماعية .

وقد إلتـقى فكر الإنجيـل الذي يحمــل يهـود ( اللعنـــة ) إلى يوم القيامــة بوصفهم ( قتلة المسيح ) ، حسب زعمهم ، مع التجربة العادية التي كان يحسها المواطن العادي في علاقته اليومية مع اليهود ، ولذلك ترجمت هذه الأفكار العدائية إلى منظمات سياسية ، ففي ألمانيـــا تكونت عصبة محاربة الساميــة تحت زعامة القسيس اللوثــري ( أدولف شتوكر ) الذي أسس إتحاد العمال الإشتراكي المسيحي ، وقد زاد حركة بغض يهود لهيبا وانتشارا بين جماهير الشعب أن ظهر زعيم شعبي في شخص ( هيرمان الفرت ) الذي إستطاع في سنة 1891م أن يرفع قضية قتل بعض يهود من أجل طقوسهم الدينية . وقد أدت القضية إلى زيادة النقمة والبغض على يهود .

ولم تتخلف فرنسا عن ركب المحاربين لنفوذ يهود الذي إمتد إلى جميع الميادين من سياسية وإقتصادية وإجتماعية . فحين تألمت برلين من سلوك يهود تألمت براغ وفيينا وكذلك باريس من سلوكهم ، وإن كان الفرنسيون قد وضعوا أصبع أوروبا على الداء الجديد بما أفهمهم كتابهم عن خطر يهود . فكان ( إدوراد ريمون ) الصحفي الباريسي البارع الأسلوب زعيم الكتاب الفرنسيين في هذا المجال أثناء العشرين عاما الأخيرة من القرن التاسع عشر إذ ألف كتاب ( فرنسا اليهودية ) الذي تدفقت من عشرات الآلاف نسخه كل شهر من مطابع باريس ، وتلقفته الأذهان تلقفا نادر المثال ، كما أنه أسس صحيفة ( القول الحر ) في سنة 1892م فأستطاع بكتابه وصحيفته أن يقدم غذاء حيا مثيرا لحملة سياسية قوية ضد يهود ، عدو أوروبا المشترك .

- النمسا والمجر تضطهدان يهود :

تعاون الكفر والسياسة في محاربة اليهود في ألمانيا ، وفي الإمبراطورية النمساوية المجرية ، ففي المجر كان للقسيس الكاثوليكي (روتبخ) أعمق الأثر في إزاحة الستار عما تشتمل عليه تعاليم يهود القديمة خاصة ما جاء فيها بالتلمود من دعوة إلى تدمير غير اليهود ، وقد ضمن هذه الأفكار كتابه (يهود التلمود) الذي نشره عام 1871م .

وما أن عين أستاذا للديانة الكاثوليكية في جامعة براغ حتى إنتشر ذكره وعمق أثره ، وتجاوبت تعاليمه مع الحركة السياسية المعادية ليهود في براغ . ولم يكن القسم النمساوي من الإمبراطورية بأهدأ حالا من الناحية السياسية ، إذ تيقظ الوطنيون في فيينا لما يمثله يهود في حياة الإمبراطورية من عوامل الفساد والإستغلال ، فوضعوا أسس الحركة المعادية ليهود وكان من أبرز قوادها الدكتور ( لوجز ) الذي بارك البابا حزبه سنة 1895 ، والذي أنتخب محاظا لمدينة فينا في العام نفسه ، ولكن الإمبراطور قاوم إنتخابه بأن رفض تعيينه في منصبه ولم يوافق على ذلك إلا بعد أن أعيد إنتخابه أربع مرات . وإصرار أهل فينا على إنتخاب الدكتور ( لوجز ) رغم معارضة الإمبراطور دليل القوة التي بلغها بين الشعب والزعماء الذين إستهدفوا محاربة يهود .

وجاءت الفضائح السياسية والمالية التي إشترك فيها ثلاثة من مشاهير اليهود المضاربين تؤكد بالفعل على ما ينادي به أمثال هؤلاء الزعماء ، وجاءت قضية الضابط اليهودي ( درايفوس ) الذي أتهم بأنه تآمر مع الألمان ونقل أسرارا حربية فرنسية إلى قيادتهم ، وقد أخذت هذه القضية دورا كبيرا في فرنسا ، وإزداد حقد النصارى على يهود .

- أوروبا الشرقية تضطهد يهود :

ولما كانت أوروبا تسيطر عليها النصرانية ، التي تلعن يهود ، في دولها الغربية والشرقية ، فقد وجدت صورة مشابهة لعداء اليهود في الغرب في دول أوروبا الشرقية . ففي رومانيا كان يهود يعملون كوسطاء ووكلاء للنبلاء الأستقراطيين . وقد زاد من أهميتهم أن الطبقة الوسطى كانت شبه معدومة ، وكان الفلاحون في حالة من البساطة والسذاجة مكنت من إستغلالهم بواسطة يهود ، فكرههم شعب رومانيا كرها عميقا ، لأنه رأى فيهم أصحاب السيطرة الحقيقية على مصائره المعيشية ، خاصة أنهم أضافوا إلى مقدرتهم على إستغلالهم ، باسم النبلاء إستغلالهم عن طريق المتاجر وإقراض المال بالربا الفاحش . ولقد زاد السخط بين شعب رومانيا مع الزمن على يهود وأنتهى سخطهم بثورة ضدهم .

وإن كان تاريخ يهـود في رومانيا قد حفـل بالحوادث أثناء القرن التاسع عشر ، إلا أن تاريخهم في روسيا القيصرية قد تجاوب في أحداثه وبعد أثره على نطاق إمتد في الزمان والمكان إمتدادا إتفق ومكانة روسيا وظروفها . ومن ثم كان من الطبيعي أن يكون تفاعل يهود مع الروس في جسامته وحدته متلائما مع ضخامة أعدادهم وخسائس أفعالهم ، وحاولت روسيا أن تحدد إقامتهم بأن تخصص لهم أقاليم لا يبرحونها إلى سواها دون إذن من السلطات العامة ، وقد إحتوت تلك الأقاليم على أكثر من نصف يهود في العالم . وقد استغل يهود روسيا بالإضافة إلى الربا وإقراض المال صناعة الخمور وبيعها ، بل إن تجارة الخمور أصبحت حكرا عليهم . ولذلك عاش الأهالي في دين مستمر لأصحاب الحانات اليهود . فأضيف إلى الحقد الذي نتج عن سوء سلوك يهود وإستغلالهم للشعب الروسي إلى ما تعلموه من المسيحية التي تدعوهم إلى كره يهود ولعنهم ، لأنهم صلبوا المسيح حسب زعمهم ، وكان الكره الروسي متجاوبا مع نشاط يهود العنيف في استغلالهم . ولقد أشيع عند إغتيال الإسكندر الثاني سنة 1881م أن ليهود يدا في ذلك . ولذلك قام الفلاحون وأهل المدن بهجوم كان القصد منه تدمير يهود للأخذ بالثأر لمليكهم المصلح في ربيع سنة 1881م . وتكرر الإعتداء في صيف العام نفسه ، وفي ربيع العام الذي تلاه .

وقد أصدرت الحكومة بعض القوانين المؤقتة لتنظيم إقامة يهود لقاء استفزازهم للشعب وهجوم الشعب عليهم من حين لآخر استجابة لعقيدتهم المسيحية ، واستجابة لسوء سلوك يهود الذين كتب الله عليهم المسكنة والذل فألهمهم الخطأ في السلوك لتضربهم الشعوب . وقضت هذه القوانين بعد إقامة مستوطنات جديدة أو شراء أملاك أو سلع خارج المدن ، كما أنها لم تسمح لهم بالعمل في أيام الآحاد والأعياد المسيحية .

ولقد إزداد يهود سخطا بهذه القوانين التي أطلق عليها ( قوانين مايو ) ، وأصابهم الذعر من المذابح المتكررة التي تلاحقت بهم حتى بلغت أقصاها في حوادث سنة 1905م . وقابلوا ذلك بالهجرة إلى أوروبا وأمريكا وبالحركات السرية في روسيا .

وقد حاول الغرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليســار أن يسد بابه دون يهـود ، وأن يفتح أمامهم باب الشرق العربي . وما أن تفجرت الحرب العالمية الأولى سنة 1914م حتى كان الغرب قد وصل إلى سياسة إغلاق الباب نهائيا في وجه المهاجرين من يهود ، لأن هؤلاء المهاجرين من روسيا إلى هذه البلاد الغربية لم ينسوا أن يصحبوا معهم ثقافتهم وطرق حياتهم الخاصة ، مما أثار شكوى الدول الأوروبية وإعلانها لرأيها عن تجربتها المؤلمة معهم . فهم لم يتخلوا عن نظريتهم المعادية للمجتمع المحيط بهم ، ولم يتخلوا عما تنطوي عليه نفوسهم من قسوة وضغائن . وظهر ذلك بطريقة عملية في مزاولتهم لأعمالهم العادية أثناء السلم ، وفي محاولة الهرب من الخدمة العسكرية عقب إندلاع الحرب العالمية الأولى في سنة 1914 ، ولم يراعوا المنافسة الحرة الكريمة في العمل ، فحاول العمال اليهود أن يعملوا بأجور منخفضة إنخفاضا يضر بمصالح العمال غير اليهود في بلدان أوروبا الغربية ، كما حاول المشتغلون منهم بالتجارة أن ينافسوا غيرهم من التجار بعرض سلع رخيصة والإكتفاء في أغلب الأوقات بنصف الأرباح المعتادة معتمدين في ذلك على ما تعودوه في مواطنهم الأصلية من إنحراف في التعامل والإلتواء في الوصول إلى مآربهم المادية .

وقد جاءت الحرب العالمية الأولى فكشفت عن هذا الإنحراف والإلتواء ، لأن أوقات الأزمات أقدر على إظهار جوهر الخلق والسلوك الإجتماعي من أوقات الهدوء العادي . وتجاوبت الشكوى في أوروبا وأمريكا من محاولات يهود الطارئين المعقدة في إخفاء أنفسهم وأشخاصهم عن نظر إدارات التجنيد الإجباري بالرغم من حصولهم على الجنسية في الدول التي إستوطنوها بعد الهجرة ، وكانوا يشوهون أعضاءهم الجسدية حتى يتهربوا من الجندية وحتى بعد التجنيد ، مما جعل الحلفاء الغربيين يرون في اليهود مثالا في عدم الولاء وإنكار الجميل ، مما أدى إلى تعاظم الحقد عليهم .

الولاء بين يهود والنصارى

من هذا السرد التاريخي للعداء اليهودي النصراني يتضح بما لا يدع مجالا للشك أنه لم يحدث ولاء بين يهود والنصارى عبر التاريخ ، وإنما حدث العكس من ذلك ، العداوة والبغضاء ويشير القرآن الكريم إلى ذلك ويقرر أن العداوة قائمة بين يهود والنصارى . ففي سورة الصف ، يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) [الصف : 14] ، والذين آمنوا هم الذين أصبحوا (نصارى) ، والذي كفروا هم الذين استمروا على يهوديتهم .

وتقرر الآية أنهم منذ ذلك الحين أصبحوا أعداء ، وأن الله سبحانه وتعالى قد أيد النصـارى على يهـود فأصبحوا ظاهرين عليهم مسلطـين . وكـذلك يقـول تعـالى ( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب ) [ البقرة : 113 ] .

ولكننا نجد أن الآية [ 50 ] وما بعدها من سورة المائدة تقرر أن هناك ولاء بين يهود والنصارى ، وتحذرنا من أن نتخذ يهود والنصارى أولياء ، فكيف يمكن التوفيق بين الذي جاءت به آيات القرآن والتي تقرر العداوة بين يهود والنصارى ، وكذلك الواقع التاريخي الذي بين هذه العداوة المستمرة بين يهود والنصارى ، وبين الـولاء الذي تتحـدث عنـه الآيات [ 50 ] وما بعدها من سورة المائدة والتي يقول الله فيها ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهولاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنــوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقــوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافـون لومـة لائم ذلك فضل الله يؤتيــه من يشاء والله واسع علـيم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنـوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعــون * ومن يتـول الله ورسوله والذين آمنــوا فإن حزب الله هم الغالبـون) [المائدة : 51-56] .

فالقرآن يتحدث في هذه الآيات عن ولاء وتناصر بين يهود والنصارى . والآيـة [ 113 ] التي أشرنا إليهـا من سورة البقرة ، والآية [ 14 ] من سورة الصف ، تحدثنا عن خلاف وعداء بين يهود والنصارى ، والواقع التاريخي الذي سردنا قسما منه يؤكد هذه العداوة والبغضاء بين يهود والنصارى . وهذا في ظاهره تناقض ، ومعاذ الله أن يتناقض كتاب الله ، إذن لا بد أن آيات المائدة التي نحن بصدد تفسيرها ، تتحدث عن فترة زمنية آتية بعد نزول الآيات .

فهي لا تصف واقعا في حال نزولها ، إذ لم يكن في حين نزولها ولاء بين يهود والنصارى في جزيرة العرب ، أو في أي بقعة من بقاع العالم ، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) حين نقض يهود العهد في المدينة قاتلهم منفردين في المدينة وفي خيبر وتيماء ، ولم يحدث لهم مساعدة وتناصر وموالاة من النصارى ، إذ لم يكن في المدينة وما حولها نصارى ، وكذلك لم يكن في مكة يهود ولا نصارى .

ولما اقتضى أن تحمل الدعوة إلى خارج الجزيرة ، خرج جيش المسلمين فقاتل النصارى في ديار الشام لأول مرة في معركة مؤتة ولم يشترك يهود في المعركة . إذن هذه الآيات هي من آيات الغيب التي تتحدث عن فترة زمنية قادمة يتعاون فيها اليهود والنصارى ، ويوالي بعضهم بعضا للتآمر على المسلمين . وهذه الآيات التي أخـبرت عن مستقبل آت هي من قبيل قوله تعـالى في (سـورة الروم) بسم الله الرحمن الرحيم (الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [الروم :1-6] . وهي من قبيل قوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركـون بي شيئـا ومن كفر بعد ذلك فأؤلئـك هم الفاسقون) [النور : 55] .

وبالفعـل انتصرت الروم بعد فترة وجيزة على الفرس كما وعد الله في كتابه ، وبالفعل حقق الله وعده للمؤمنين فأصبحوا خلفاء الأرض يعمرونها ، وأصبح دينهم هو الدين المسيطر ، وأصبحوا يعيشون في آمن وطمأنينة في بلادهم وفي كل بلد دخلها الإسلام . وإلى غير ذلك من الآيات المستقبلية الكثيرة في القرآن .

القرآن يتحدث عن المستقبل

ولما كان القرآن هو كتاب الله الخالد إلى يوم القيامة ، ويتحدث عن مسيرة البشرية إلى أن تلقى ربها ، فمن البديهي أن يشير إلى الأحداث الكبرى في صراع المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى ، وكم من الآيات التي نقرأها اليوم فنقف أمامها خاشعين لأنها ترسم صورة المجتمع الذي نعيشه ، كقوله تعالى ( قل هو القـادر على أن يبعـث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون ) [ الأنعام : 65 ]. أليست هذه الآية واحدة من الآيات التي ترسم صورة ما عانته الأمة وما تعانيه من فئات متباينة وأحزاب متلاعنة وحروب محلية وإستعمال للطائرات والقنابل والألغام والمدافع بين الفئات المتحاربة من الأمة الواحدة . هذه الأسلحة الحديثة (من فوقكم أو من تحت أرجلكم) لم تكن معروفة وقت نزول هذه الآية ، وهذا يدل على أن هذا القرآن هو معجزة الله الخالدة ينبه الأمة لأن تسير طريقها السوي وتمشي صراطها المستقيم ، وإلا حل بها عذاب في دنياهم مصداقا لقوله تعالى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون) [السجدة : 21] . وحينما نقرأ آية أخرى من هذه الآيات التي تتحدث عن فترات زمنية قادمة بعد نزولها تمرض فيها الأمة مرضا ماديا ، فتنصرف إلى التمتع بالملذات والجري وراء الشهوات والإنغمـاس في الرذائل ، وذلك نتيجة إنصرافها عن عبـادة الله وعن الجهـاد والذكـر ، وكيف أن ذلك سيؤدي بها إلى الهلاك والدمار ، لأن الترف دائما يمزق الأمم ويهـدم الحضــارات ، لأنه يفقد الأمة صلابتها ويقتل روح التحـدي فيها فتستريح من تعب الجهــاد وتنـام مسترخيــة فيـدب في جسـدها التفسخ ، وذلك حينمــا تعرض عن الجهاد وعبــادة الله التي خلقـت من أجله . يقول تعالى (فلمــا نسوا ما ذكروا به فتحنــا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحـوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم ملبسون * فقطع دابــر القــوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام : 44-45] .

أرأيت الصورة الإعجازية الربانية كيف ترسم الواقع الذي تعيشه البشرية الآن التي أعرضت عن الله ، فلم تتوقف بينها الحروب المدمرة . ففي هذا القرن وقعت حربان عالميتان أصابت شرورهما الإنسانية جمعاء . وفي هذا القرن إندلعت كثير من الحروب المحلية المحدودة التي دمرت البلدان التي إشتركت فيها . وفي هذا القرن حيث أعرضت الإنسانية عن ربها نهائيا ، كثرت الزلازل والفيضانات وحوادث الصقيع والجليد التي يعطي الله بها الإنذارات للبشرية علها تعقل . ألم تر إلى نيويورك وهي أكبر عاصمة مادية في الكرة الأرضية ، كيف نهبت في ليلة واحدة حينما سادها الظلام نتيجة لإنقطاع التيار الكهربائي قبل بضع سنين .

والقوتان العظميان تحشدان الأسلحة النووية الفتاكة ، والأسلحة الجرثومية ، وتتفننان في إختراع ما يؤدي إلى هلاك البشرية ، وهما في نفس الوقت يدعوان إلى الإلحاد وينشران الفساد ، فأعرضت البشرية تحت توجيههما عن ذكر الله . فهل يحدث خطأ مقصود أو غير مقصود فتخرج هذه الأسلحة المخزونة من عقالها لتدمر البشرية ؟؟ .

ونحن في العالم الإسلامي بدأنا نلحق بالبشرية الضالة ، نلهث وراء الموضة ونقلد بوعي وبدون وعي ، نأكل ما يأكل الكفار ، ونلبس ما يلبسون ، ونشرب ما يشربون من حلال أو حرام ، وأخذنا ننصرف عن الوحي ، عن القرآن والسنة ، وفي هذه الحقبة الزمنية فتح الله على البشرية أبواب كل شيء بحيث أصبحت حياة سهلة ميسورة لا مشقة فيها ولا عنت . الطعام يأكله الإنسان شبه مهضوم ، واللباس يشتريه مخيطا ، وكل يوم لباس جديد وموضة جديدة . وجاءت السيارات وتبعتها الطائرات وتطورت وسائل المواصلات حتى صغرت الكرة الأرضية ، وأصبحت في متنـاول الإنسان يرتادها في يومين أو ثلاثة أو في يوم أو في بضع يوم . وجاءت الكهرباء ومشتقاتها : آلة تطبخ وأخرى تغسل ، وثالثة تنظف ، ورابعة تكوي ، وخامسة وسادسة إلى ما لا يعد ولا يحصى . وتفنن الناس في بناء القصور وزخرفتها ، وأصبح الديكور في البيوت يكلف أكثر من البيت نفسه ، ورأينا في عواصمنا نحن المسلمين بيوتا تبنى يسكن فيها زوجان يكفي ثمن الواحد منها لإطعام قرية جائعة . وأصبح التفاخر بالأثاث الفاخر والديكور وبرك السباحة مجالا للفرح والتيه . فهل رأيت كيف تصف هذه الآية الأمة من القرآن الكريم الواقع الذي نحياه الآن . وأن هذا الترف اللامعقول واللامقبول سيؤدي إلى تدمير الحضارة الغربية بوجهيها ( الإشتراكي ) والرأسمالي ، وها هو الوجه الشيوعي للحضارة الغربية قد إنتهى ، والوجه الرأسمالي للحضارة الغربية في طريقه إلى الزوال . وإننا نحن في المنطقة الإسلامية ونحن في معركة مع عدونا ، وهي معركة بقاء أو فناء ، كيف نستسيغ لأنفسنا العيش في هذا الترف القاتل وبناء هذه القصور . وإن بعض الأحياء السكنية في بعض العواصم العربية فيها من القصور والديكور والتفنن المعماري ما لا يكاد يوصف ، مع أنها في كل لحظة تحت رحمة صواريخ العدو وطائراته بل ومدفعيته . والله يهددنا إن لم نتعظ فإنه سوف يأخذ هذا الترف كله ويفنيه ، ونعيش بعدها مبلسين في يأس وقنوط .

ولقد حقق الله المثل الذي ضربه في القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان . وتتمثل هذه الصورة اليوم في بيروت التي كانت مثالا للحياة المتفسخة ، لا تنام الليل ، وتلهث في النهار ، إنهارت فيها القيم وإختلط الحابل بالنابل ، والنجاسة بالطهر ، والكفر بالإيمان ، والعهر بالإستقامة ، الرجولة بالميوعة ، حتى لم تعد تميز بين خير وشر وحلال وحرام ، ولا تعرف المسلم من غير المسلم ، يلهث وراء اللذة ، ويشبع جوع المعدة وجوع الجنس بأي وسيلة ، وكيفما أتفق .

وفجأة إذ ببيروت تعيش الخوف والجوع ، ويهلكها العهر ويمحقها الربا ، فكل تجارة بيروت وعماراتها وأسواقها قائمة على الربا ، ولكن القرآن قرر أن الربا مآله المحق ، فأجتمع في بيروت الترف والكفر والربا ، وكلها عوامل الدمار لأي مدينة في الأرض .. وقد حدث ذلك في الخليج وفي ( الكويت ) خاصة . ولنتدبر الآيات المعجزات :

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) [الإسراء : 16] . قال تعالى (يمحق الله الربا ويربي الصدقات واللــه لا يحب كل كفار أثيم ) [البقرة : 276] . قال تعالى (وضــرب الله مثـلا قريـة كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لبـاس الجـوع والخـوف بما كانــوا يصنعــون) [البقرة : 112] .

ولسائل أن يسأل : هل بيروت وحدها التي أسرفت وكفرت ورابت ؟ والجواب هو : أن عواصم الغرب الكبرى دمرت في خلال هذا القرن مرتين ، مرة في الحرب العالمية الأولى ، والأخرى في الحرب العالمية الثانية ، ولا ندري هل سيبقى منها أثر في الحرب العالمية المقبلة أم لا ؟! وبهذا يتبين أن آيات القرآن المتعلقة بمسيرة البشرية لا يصح أن تفسر تفسيرا تاريخيا فقط ، كآيات الإسراء المتعلقة ببني إسرائيل وبعلوهم وفسادهم ، وقد بينت في تفسيرها أن المرتين بعد نزول القرأن وليس قبله .

وبهذا السرد للآيات القرآنية التي تتحدث عن المستقبل ، أردت أن أوضح أن معنى آيات المائدة في الموالاة بين يهود والنصارى هو مستقبلي ، تتحدث عن المستقبل في علاقات المسلمين مع يهود والنصارى . وأن تآمر يهود والنصارى مجتمعين على المسلمين وأرض الإسلام والأرض المباركة هو بعض ما جاء به القرآن الكريم .

تحقق الموالاة بين يهود والنصارى
في بداية القرن العشرين

ونعود إلى الآية وتفسيرها ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ) [ المائدة : 51 ] . وقد بينا آنفا أنه لم تحدث موالاة بين يهـود والنصـارى منذ أن جاء عيسى عليه السلام بالنصرانية إلى بداية القرن العشرين ، وأن العداء بينهم هو دين الطرفين ، ولكن فجأة تحدث المــوالاة والتناصر بينهم ، وينسون الأحقــاد التي كانت العلامــة المميزة للعلاقات بينهم . فقد تعـاونوا في أول القرن على عزل السلطان المظلوم عبد الحميد ، حين رفض أن يعطي يهود إمتيازات في فلسطين ، وكان يهود في المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقدوه في مدينة ( بال ) بسويسرا سنة 1897م قد اتخذوا قرارا بالإستيطان في فلسطين التي كانت جزءا من الدولة الإسلامية العثمانية ، وذهبت رسلهم إلى مقابلـة السلطان في إسطنبول ، ومن الذين ذهبوا لمقابلة السلطان : اليهودي ( قارصو أفندي ) ، ورئيس المؤتمر الصهيوني ( ثيودور هرتزل ) . وقد عرض هؤلاء على السلطان في بادىء الأمر أن يسدد يهود ديون الدولة العثمانية ، وأن يخصوا السلطان بخمسة ملايين ليرة عثمانية ذهبا . ولكن السلطان الذي كان على وعي تام بمخططات الكفار ضد بلاد المسلمين وكان يحذر الواعين من الأمة من هذا التآمر رفض العرض .

وظن يهود أن الأمر يتعلق بقلة المبالغ التي عرضوها فأخذوا يرفعون الرشوة حتى بلغت الآتي :

تسديد ديون الدولة العثمانية ، وتعمير الأسطول العثماني ، ومبلغ مائة وخمسين مليون ليرة ذهبا للسلطان شخصيا . ولكن السلطان المسلم أخبرهم بأن حفنة من تراب الأرض المقدسة تساوي أموال يهود التي في الدنيا . فقرر يهود أن يتخلصوا منه ، فتعاونت المحافل الماسونية مع الحركة القومية الطورانية ويهود الدونمة ( الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ) مع النصارى ، وتم عزل السلطان سنة 1909م ، ونفي إلى سالونيك في اليونان وأهين وعذب وشوهت سمعته ، ولقد وصل الأمر بهم أن جعلوا السلطان عبد الحميد رمزا للتأخر وللحاكم الجائر . . ولكن كل ذلك إلى حين ، حيث بدأت تنكشف الحقائق وأنه كان - رحمه الله - من أخلص حكام المسلمين .

وكان يهود قد تعاونوا مع الإنجليز في أثناء الحرب ، وكان ( وايزمان ) اليهـودي عالما كيمــاويا ، فأستغل مخـترعاته في أثنــاء الحرب ، وكذلـك البيوتات الماليـة اليهـودية ، مثل روتشيلد ، إستغلت حاجة بريطانيــا لمخترعاته وأموالهم . وكانت بريطانيــا لا تزال العدو الأول للمسلمين ، فأعطت يهـود ( وعد بلفور ) في 2 / نوفمبر / 1917م ، وكان ذلك أثناء الحرب بإتفاق مع أمريكا ، وينص الوعد على إنشاء وطن قومي ليهود في فلسطين ، وكان هذا أول تعاون بارز بين بريطانيا النصرانية ويهود .

وبعد الحرب العالمية الأولى أنشئت عصبة الأمم المتحدة ، وفي سنة 1922م أعطت حق الإنتداب لبريطانيا النصرانية على فلسطين لتضع البلاد إقتصاديا وثقافيا وعمرانيا وسياسيا في وضع يتحقق منه إنشاء الوطن القومي اليهودي . وبالفعل قامت بريطانيا النصرانية بهذا الأمر شر قيام . فعينت أول مندوب سام لها في فلسطين من يهود وهو ( هربرت صمويل ) .

استمر هربرت صمويل مندوبا ساميا في فلسطين لمدة ست سنوات ، وضع فلسطين خلالها في وضع يساعد على إنشاء الوطن القومي ليهود ، فسن قوانين إباحة الهجرة اليهودية ، وتغاضى عن الهجرة اليهودية ( غير الشرعية ) ، وفرض ضرائب باهظة على الأرض حتى يضطر الفلاح العربي المسلم إلى بيعها ، وأباح إستيراد القمح من استراليا وبيعه بأرخص من القمح الذي تنتجه أرض فلسطين ، وحتى لا تقوم الأرض بتكاليفها وتكاليف معيشة الفلاح . ومع هذا فإن هذه السياسة لم تنجح في أن يبيع أهل فلسطين أرضهم وبقوا متشبثين بها ، بالرغم مما يقوله أعوان اليهود وسماسرة الحكام من أمثال المدعو : أنيس منصور رئيس تحرير مجلة ( إكتوبر ) المصرية الذي قال بكل وقاحة :" إن اليهود اشتروا فلسطين شبرا شبرا " ، حتى يبرر لسيده أنور السادات المرتد ، مناداته ببقاء دولة اليهود في فلسطين . والواقع هو أن يهود كانوا يملكون من أرض فلسطين 2% سنة 1918م وحتى 1948م كان مجموع ما يملكه يهود من فلسطين 5.8% حسب إحصائية الأمم المتحدة . ولم يكن الـ 5.8% بيعا من أهل فلسطين ، وإنما كان من الأراضي التي تملكها الدولة وأعطتها بريطانيا النصرانية ليهود ، وبعض العائلات الإقطاعية التي كانت تمتلك قسما كبيرا من شمال فلسطين ، وكانت تقيم في لبنان ، ومنها عائلة سرسق ( نصارى ) وعائلة سلام ( مسلمة ) باعت أراضيها ليهود .

مقاومة الشعب الفلسطيني

وأخذ الشعب في فلسطين يقاوم سياسة التهويد ، ويتشبث بأرضه ، فقام بالثورات المتلاحقة فكانت ثورة سنة 1920م ، وثورة سنة 1929م حينما إدعى يهود ملكيتهم لحائط البراق وأنه من بقايا هيكل سليمان ، ثم ثورة سنة 1933م ، ثم الثورة الكبرى من عام 1936م إلى 1939م ، حيث قام الشعب كله يصارع بريطانيا ويهود ويضرب المثل للدنيا في التضحية والفداء ، وقدم آلاف الشهداء وتعرض للتعذيب في السجون والمعتقلات ، وعاش الناس في إرهاب ولكن روح التحدي فيهم كانت عالية لم تستطع بريطانيا إقتلاعها أو تدميرها بالرغم من بطشها . وفي هذه الأثناء أنشأت بريطانيا جيشا ليهود ، أخذت تدربه وتسلحه باسم حرس المستعمرات (الهاغاناه) . وكان هذا الحرس هو النواة الحقيقية لجيش دولة يهود فيما بعد . وكل رؤساء الأركان فيما يسمى بجيش الدفاع اليهودي منذ سنة 1948م هم من ضباط هذا الفريق اليهودي مثل ديان ، وآلون ، ويادين .. وغيرهم .

وهكذا عملت بريطانيا النصرانية على إعطاء يهود كل ما يريدون وأكثر مما يريدون ، وأسست لهم دولة في أرض الإسلام ، واستمر التعاون بين يهود والنصارى في هذا القرن ، فأصدرت هيئة الأمم المتحدة النصرانية وريثة عصبة الأمم والتي أسسها الحلفاء المنتصرين لتقسيم مناطق النفوذ فيما بينهم قرارا بإنشاء دولة يهود في فلسطين عام 1947م .

وتسابقت الدول النصرانية الكبرى على الإعتراف بهذه الدويلة ، فتفتخر أمريكا النصرانية وريثة بريطانيا النصرانية في عداء المسلمين بأنها أول من إعترف بهـذه الدولـة بعد إنشائهـا بإحدى عشر دقيقة ، وكانت روسيا الدولة الثانية ، ونالت ( الفخر ) بهذا الإعتراف السريع ، مع أن هذا الإعتراف يخالف مبدأها الشيوعي الذي تقوم عليه وهو ( الأممية ) ومحاربة ( العنصرية ) كما يزعمون . إلا أن العداء للإسلام جمع بين أطراف الكفر المتناقض الذي هو كقطعة العملة الواحدة ذات الوجهين .

وتوالت إعترافات الدول النصرانية بدولة يهود . وبعد ذلك أخذت الدول النصرانية تلهو بالمسلمين وبحكامهم ، فتصدر قرارات في هيئة الأمم المتحدة تبين حقـوق الفلسطينيين بأرضهم وتطالب بعودتهم وبتنفيذ قـرارات التقسيم . والحكام الذين والوا يهود والنصارى ، والذين هم من صناعة يهود والنصارى ، أعجبتهم اللعبة والعبث الذي يجري بهم وبأمتهم ، فكلما اجتمع حاكم إلى حاكم أصدرا بيانا يطالبان فيه بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بفلسطين والتي أصبحت لا تعد ولا تحصى .

واستمر التعاون بين يهود والنصارى حتى كان العدوان الثلاثي على مصر المسلمة حيث اشتركت جيوش نصرانية (فرنسية وبريطانية) مع جيش يهودي في الهجوم على مصر سنة 1956م وهذا لأول مرة في التاريخ حيث اشتركت جيوش نصرانية ويهودية في حرب المسلمين .

وفي الستينات من هذا القرن بلغ التعاون ذروته بإعلان البابا تبرئة يهود من دم المسيح -حسب زعمهم- حتى لا يتأثر النصارى المتدينون حينما تسقط مقدساتهم في أيدي يهود الذين صلبوا المسيح - حسب زعمهم - وبلغ الأمر ذروته بتعاون الكثير من نصارى لبنان (خاصة الموارنة منهم) بكل وضوح وبكل وقاحة مع يهود حيث يقاتلون المسلمين في خندق واحد .

ومن العجيب الغريب أن دولة لبنان النصرانية بقيت فترة طويلة تقوم بدفع مرتبات جنود الخائن (سعد حداد) ومن بعده (أنطوان لحد) بالرغم من تعاونهم العلني مع يهود . وهذه الأموال من دافعي الضريبة المسلمين ، ومن مساعدات دول أوروبا -التي سكانها مسلمون- فكيف حدث هذا ؟! أو كيف يحدث هذا ؟! إنه الكفر وأعوانه يفعلون ما يريدون .

وأما ما قاله الطبري وغيره من المفسرين في قوله تعالى ( بعضهم أولياء بعض ) ، فإنه علل ذلك بأن يهود أنصار بعضهم البعض يد واحدة على عدوهم ، وأن النصارى كذلك . وهذا القول مردود بالقرآن وبالواقع التاريخي لأن القرآن يقرر أن النصارى مختلفون إلى يوم القيامة وبينهم العداوة والبغضاء ، فلا يمكن أن يكونوا يدا واحدة لأن الله تعالى يقول ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينئهم الله بما كانوا يصنعون ) [ المائدة : 14 ] .

ولذلك ، منذ أن أنقسم النصارى إلى طوائف ، والعداوة قائمة بينهم على أشدها ، فالكنيسة الشرقية ( الأرثوذكس ) التي مقرها إسطنبول ، لا تعترف بالكنيسة الغربية ( الكاثوليك أو اللاتين ) التي مقرها روما ، وبابا روما لا يعترف ببابا إسطنبول . وقد إنقسمت الكنيسة الغربية ، وأنفصلت عنها حركة التجديد الديني ( البروتستانتينية ) التي تزعمها ( مارتن لوثر ) ، والتي تتمثل في الكنيستين الإنجليزية وأكثر الألمانية وأكثر الأمريكان . فلا يعترف البروتستانت بالبابا ، ولا يعترف البابا بالبروتستانت ، فهو يعتبرهم خارجين عن الكنيسة ( هراطقة ) لأنهم لا يؤمنون بالتماثيل والصور ، وهم بالمقابل يعتبرونه ( مرتدا ) . والصراع الدموي بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية القائم على أساس ديني والذي لم يهدأ منذ سنوات طويلة يعطي صورة واضحة عن عداوة النصارى بعضهم مع بعض ، والحروب بين دول أوروبا النصرانية لم تتوقف عبر التاريخ ، فما من دولة أوروبية إلا وحاربت جارتها النصارنية ، وكثيرا ما كان العامل الديني المذهبي هو المحرك في هذه الحروب .

ويهود كذلك ليس بعضهم أولياء بعض بنص القرآن الكريم ، فكما أوقع الله العداوة بين النصارى بعضهم مع بعض ، أوقع العداوة بين يهود بعضهم مع بعض وإلى يوم القيامة . قال الله تعالى ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مسبوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيــانا وكفرا وألقينــا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين) [المائدة : 64] . ويقول الله تعالى (لا يقاتلونكم جميعــا إلا في قرى محصنة أو من وراء جــدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جيمعــا وقلوبهم شتى ذلك بأنهــم قــوم لا يعقلــون) [الحشر : 14] .

والمتتبع لأحوال يهود في الأرض المغتصبة يجد مدى إنطباق هذه الآية وصدقها على المجتمع اليهودي في فلسطين . فالأحزاب اليهودية حوالي ثلاثين حزبا من أقصى اليسار الشيوعي المتطرف الملحد إلى أقصى اليمين الصهيوني المتحجر . والأحزاب تتناحر بعنف . والمجتمع اليهودي مجتمع عنصري طبقي مخيف . فالحياة الرغيدة هي ليهود أوروبا ، وخصوصا الذين هم من أوروبا الشرقية مثل روسيا وبولندا. هؤلاء هم أصحاب السلطة في الدولة . فكل الزعماء الذين أقاموا دولة يهود وحكموها تقريبا منهم ، من أمثال : غولدا مائير ، وبن غوريون ، وشرتوك ، وآلون ، وديان ، وبيغن . وهؤلاء أعطوا الإمتيازات لأنفسهم ولبقية اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين من أوروبا وأمريكا ، أما يهود الشرق الذين ليسوا من دول أوروبا أوأمريكا فهم مواطنون من الدرجة الثانية أو الثالثة ، فهم وقود الحرب ويعيشون في أدنى درجات السلم الاجتماعي .

الفئة التي والت اليهود والنصارى وأصلها مؤمن

وتتحدث الآيـة محذرة المؤمنـين من أن يوالوا يهــود والنصارى ، وقد قـال أبو جعـفر الطبري في تفسير قوله تعالى (ومن يتـولهم منكم فإنه منهم) [المائدة :51] : "ومن يتول يهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم ، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه مؤمن وما هو عليه راض ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه كحكم من تولاه " .

وبالفعل حينما بدأت الموالاة بين يهود والنصارى ، تمهيدا لإقامة دولة يهود في أول هذا القرن ، كان يهود والنصارى قد مهدوا الطريق لهذا الأمر بإنشاء الجمعيات والنوادي ، وقد أدخلوا فيها بادىء الأمر أبناء النصارى ويهود فقط ، ولكن ذلك لم يؤد إلى الغرض المقصود إذ أنهم يستهدفون الإسلام والمسلمين ، فأدخلوا أبناء المسلمين في تلك والنوادي فيما بعد . وكانت الدولة العثمانية (دولة الخلافة) قد أصبحت الرجل المريض ، وأنشأوا المدارس الغربية في ديار المسلمين ونشروا الثقافة الغربية ، وبلغ هذا الأمر ذروته بإنشاء الجامعة الأمريكية في بيروت، هذه الجامعة التي خرجت كثيرا من الساسة وحكام العرب الذين ساهموا في قيام ما يسمى دولة إسرائيل فيما بعد . وقد ذهب نفر من أبناء الأثرياء من المسلمين لتلقي العلم في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، ورجعوا من الغرب مفصولين عن فكرهم الأصيل ، وبدأوا يدعون إلى القوميات ويعادون الإسلام الذي لا يميز بين بني البشر إلا بالتقوى . وبدأ الغرب الصليبي المتعاون مع يهود ينشىء جمعيات لهؤلاء الشباب القومي كجمعية الإتحاد والترقي في تركيا لأبناء الأتراك ، وجمعية العهد لأبناء العرب وكان مقرها باريس .

وتعاون دعاة القومية مع يهود والنصارى على هدم دولة الخلافة : الأتراك يدعون إلى القومية الطورانية وفرضها على الشعوب التي تتكون منها الدولة الإسلامية ، والعرب يدعون إلى القومية العربية العلمانية والتخلص من حكم الدولة العثمانية . وكان السلطان عبد الحميد قد فهم اللعبة ، فقاوم ما وسعته المقاومة ، وكان قد ورث الدولة العثمانية وهي شبه منهارة ، ولكنه استمر يناور دول الغرب ثلاثين عاما حتى إستطاعوا أن يتغلبوا عليه في النهاية ، فعزل عام 1909م ، وكان عزله تمهيدا لقيام دولة يهود في فلسطين . وقد تعاون القوميون على عزله واستلموا الحكم وكان السلطان الذي خلف عبدالحميد ألعوبة بين أيديهم وأرادوا تتريك الشعوب الإسلامية فجعلوا لغـة التدريس في المدارس اللغـة التركيـة مما عجل بالقضاء على الدولة الإسلامية العثمانية ، وكانت ( الثورة العربية الكبرى ) التي قامت لتخليص العرب من الدولة العثمانية بتخطيط من الإنجليز . ثم جاء أتاتورك الذي حاول هو وخلفاؤه من بعده أن ينزعوا تركيا من الإسلام ، أو بالأحرى أن ينزعوا الإسلام من تركيا ! . ولكن الشعب التركي المسلم بدأ يعود متمسكا بدينه ، وقد فشلت مخططات تكفيره . ثم جاءت الحركات القومية الثورية ، والأحزاب الإشتراكية ، والماسونية . وكلهم تعاونوا مع يهود والنصارى بشكل أو بآخر ، وكلهم ساهم في قيام دولة يهود فأبعد الإسلام عن الساحة نهائيا . وذلك لأن دولة يهود نجسة لا يمكن أن تقوم في أرض طاهرة يحكمهـا الإسلام ، فلا بد من حكومات نجسة فكريا حتى تقوم دولة ليهود من خلالهـا ، فكان الفكـر الذي سيطر على الأرض الإسلاميـة فكـرا أباح الزنا ودواعيـه ، وأباح الخمر وشجع عليه ، وأباح القمار وأنشأ له نواد ، وأباح الربا وأسس له مؤسسـات ضخمـة تأكل أمـوال الناس بالباطـل ، وحـورب الإسلام ورجال الإسلام حربا لا هـوادة فيهـا ، فجعلوا من الإسلام عنوانا للتخلف الحضـاري والتخلف العقلي . وصدق الله العظيم حين قال (إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون * وإذا مروا بهم يتغامزون * وإذا إنقلبوا إلى أهلهم إنقلبوا فكهين * وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالـون * وما أرسلوا عليهم حافظـين) [المطففين :29-33] .

ومن ضمن الخطة التي وضعت لمحاربة الإسلام ، وحتى تقوم دولة يهود ، حورب علماء الإسلام في أرزاقهم ، وأصبح ينظر إليهم على أنهم طبقة (غير منتجة) ماديا ، وأنهم عالة على مجتمعهم ، ونتج عن هذا مزيد من التفكك في المجتمع مزيد من التآكل في الأسرة ، ومزيد من الميوعة ، وانقلب ميزان الفضـائل ، فأصبح التقـدم يعني الإنحلال ، وأصبح الرقي يعني الثـورة على الفضيـلة ، وأصبح الكرم يعني أن تكرم بعرضـك ، وأبعد كل ما له علاقة بالإسلام عن الساحة ، حتى أن الكلمات التي لها علاقة بالإسلام منع إستعمالها في المعركة فكلمـة (الجهاد) مثلا استبدل بها (الكفـاح والنضـال) ، وكلمة (الكفار) استبدل بها (الاستعمار) ، وكلمة (اليهودية) استبدلت بها (الصهيونية) حتى تطمس الإصطلاحات الإسلامية والإسلام نهائيا . وبدلا من أن يكون الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين أصبح الولاء للقائد والحاكم والحزب وللكفر والكفار . والإسلام ربى المسلمين على أن يكون ولاؤهم لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولكنه منعهم من أن يربطوا الإسلام بشخصه الكريم ، ولذلك حين خرجت الإشاعات في غزوة أحد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد قتل ، أصاب الوهن نفوس بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- ، واعتقدوا أن الإسلام قد انتهى بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأنزل الله مؤدبا للمؤمنين ومعلما لهم ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) [آل عمران : 144] .

وهكذا ركز القرآن الكريم في آيات عديدة على بشرية محمد (صلى الله عليه وسلم) ، ويقول تعالى مؤكدا على بشرية نبيه خوفا من أن يؤلهه الناس (قل إنما أنا بشــر مثلكـم يوحـى إلي أنما إلهكم إلـه واحد) [الكهف : 110] . ويقـول الرسـول ( صلى الله عليه وسلم ) :" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنمـا أنا عبد الله ورسولـه " . وكان الرجل يدخل على مجلس النبي (صلى الله عليه وسلم) فيسأل : "أيكم محمد؟ " حيث كان لا يتمـيز عن أصحابه بلباس أو مجلس .

ولكننا رأينا في زمننا هذا أن الزعيم مقدس ، وأن الحاكم لا يخطىء ، فمؤسس الحزب ينظر له بقداسة . ولقد إستغل بعض الساسة والزعماء هذا الأمر ، فأخذوا يستهزئون بالشعوب ، ويتلاعبون بالعقول ، والناس تلهث وراءهم تصفق بأيديها وتهتف بحناجرها ، وعقولها في إجازة ! والزعيم يلعب بالعواطف ، يجعل الأبيض أسود ، والأسود أبيض ، ثم يعود البياض إلى بياضه ، ويعود السواد إلى سواده هو هو لم يتغير . فبطل الأمس خائن اليوم ، وفجأة تقضي مصلحة الزعيم أن يعود هذا البطل إلى خيانته ، ثم يعود مرة أخرى إلى بطولته ، والجماهير تتبع رأي الزعيم لا تسأله لم غير ؟ ولم بدل ؟ إنه أمن ولاءها بعد أن أفقدها وعيها . وهكذا ساق أصحاب الشعارات المتجردين من الإسلام الأمة إلى الهزائم المتلاحقة والنكبات المتتابعة بعد أن رضوا أن يكونوا حكاما على الدويلات الممزقة والتي صغر بعض منها فأصبح على مستوى الحارة . وإن تلك الدويلات لها أعلام وسفارات وسلام رسمي ، وهي عضو في هيئة الأمم المتحدة بجانب الدول الكبرى التي تتحكم في مصائر الأرض . ولكن كل ذلك كان حتى تقوم دولة يهود وسط التمزق والتشرذم والتلاعن والتباغض بين حكام الدويلات . وأغلب حكام هذه الدول أو الدويلات ممن يوالون النصارى ويهود ، فيعتقدون بعقيدة النصارى القائلة بفصل الدين عن الحياة ، وأن الدين لا علاقة له بحياة الناس ، فهم يبيحون الربا كما أباحه النصارى ويهود ، ويبيحون الزنا كما أباحه النصارى ويهود . وصدق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال :" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلـوا جحر ضب لدخلتموه ، ! قالـوا يا رسول الله : اليهـود والنصارى ؟ ، قال : فمن إذن ؟ " !! وبذلك صدق قـول الله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) ، لأنه ( المقصود موالي اليهود والنصارى ) آمن بعقيدتهم ونمط حياتهم ، وبالرغم من الهزائم المتلاحقة التي لحقت الأمة على أيدي من والى يهود والنصارى ، فقد استمروا في طغيانهم يعمهون ، فلم يغيروا أنظمة الكفر ، ولم يحرمـوا ما حرم الله ورسوله ، حتى يغـير الله ما بهم ، وما حل بأمتهـم من هزائـم .

ومضت هذه الفئة في إرضاء يهود والنصارى حتى لم تترك طريقا ترى فيه إرضاء ليهود والنصارى إلا وسلكته . فحولت وسائل الإعلام في العالم الإسلامي إلى أدوات تهدم كل القيم التي تكونت منها أمتنا والتي إستطاعت بها أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، تهدي الضال ، وتدل الحائر ، وتطعم الجائع ، وتحسن لليتيم ، ولا تنسى البائس الفقير ، ويتقدم الإنسان في ظل هذه القيم بجهده وتقواه لا بعرقه ونسبه ، يجعل العبادة لله وحده لا للزعيم ولا للقائد ولا للحزب ولا للمال ولا للشهوة ولا للعقل ولا للعلم ، فيكون الإنسان في ظل هذه حرا كما خلقه الله . . فجذور حريته خيوط تمتد إلى منابع السماء ، فيها الفضيلة والرحمة والمحبة والإيثـار والإحسان إلى ذوي القربى والجـار ولو خالف دينك أو لم يكن على عقيـدتك . إنها قيم تجعل الأسرة هي اللبنة في بناء المجتمع ، أسرة متناسقة منسجمة لها قائد ، فإذا إنحرف قائد الأسرة تدخل ولي أمر المجتمع فحجز على السفيه ، ومنع تصرف المجنون ، وهكذا تمشي الحيــاة في ظل القـيم في إنسياب رحيم وإتساق جميل ، يعرف الإنسان في ظل هذه القــيم أنه خلق لعبادة الله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات : 56] ، فهو يأكل ليقوى على العبادة ، وهو يشرب خوفا من أن يذوي . العبادة ليست في الصلاة وحدها ، وليست في الصوم وحده ، وإنما العبادة في كل عمل يقوم به الإنسان ، فهو لا يغش لأن الغش حرام ، وهو لا يسرق لأن الله منع السرقة ، وهو لا يزني لأن الزنا مرفوض من الله ، وهو يجاهد لأنه يريد أن يدخل الناس جميعا في الخير الذي دخل فيه حتى يصل الناس جميعا إلى الله بسلام وأمن ومحبة ، وهو لا يخون أمته لأن الخائن مرتد ، وهو لا يعين عدو أمته لأنه بذلك يذهب إلى النار ، وهو لا يرابي لأن من رابى فقد أعلن الحرب على الله ورسوله ، ولا يحتكر أقوات الناس لأن من إحتكر فقد أخطأ كما ورد في الحديث :"المحتكر خاطىء"، وهو لا ينام على شبع وجيرانه جياع وذوو رحمه لا يجدون الطعام لأنه بذلك يكون قد خرج من حظيرة الإيمان كما ورد في الحديث :"ما آمن بي من بات شبعـانا وجاره جائـع إلى جانبـه وهو يعلم" .

ففي ظل القيم الإسلامية يكون المال وسيلة لإشباع حاجات الإنسان الضرورية بالطرق التي رسمها الشرع ، وما تبقى منه فهو للإنفاق على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله ووجوه الخير المختلفة ، وفي ظل هذه القيم يتعلم الإنسان الصدق لأن الكذب حرام ، الوفاء واجب لأن الغدر حرام . وجاءت وسائل الإعلام لتنسف هذا كله أو لتشوه هذا كله ، فأخذ تقنع الناس بأن الربا ضرورة من ضرورات الحياة الإقتصادية وأن الناس لا يعيشون بغير ربا ؟؟ وغرق الناس أو كثير من الناس في الربا ، وبدأوا يذوقون القلق ، ويعرفون الأرق ، تلاحقهم الأقساط ، وتلهب ظهورهم الكمبيالات . والمرابي لا يرحم ولو أدى بالإنسان إلى بيع أثاث بيته . إنه يريد الربا ويريد المال . أما الرحمـة ، وأما النظرة إلى ميسرة فهي أليق بالمؤمنين ، أما المرابي فهو إنسان آخر لا يهمه عذاب الإنسان ولا جوع الأطفال ولا تحطيم الأسر ، وكلما إزداد أكله للربا إزداد تحجر العاطفة في نفسه ، فهو لا يرحم ولا يشـفق إلا لمصلحة يراهـا ، أو ليتظاهر بأنه حمل وديع ، وإنسان من أصحاب الخـير . وبدخول الربا ، عرفت المجتمعات الإسلامية شقاء المجتمع الغربي الربوي ، وبدأ الناس يعيشون في دوامة من الطمع والهلع ، يذوي الخير في نفوسهم ، وتلاحقهم التعاسة والشقاء . وبدأت الكوارث الربوية تتوالى في بلاد المسلمين في حتمية إليهة حيث يقول تعالى (يمحق الله الربا) [البقرة : 276] . وتهاوت مؤسسات ربوية ضخمة معلنة إفلاسها ، وأممت مؤسسات ربوية كثيرة أخرى ، وولول صغار المساهمين وتحسروا على مالهم الذي ضاع ، والذي محق فيه الربا الحلال والحرام ، وكثرت الأمراض نتيجة للقلق وتنوعت ، وتنوع معها العلاج وكثر ، فهناك حبوب من أجل أن ينام الإنسان ، وأخرى من أجل أن يستيقظ ، وثالثة من أجل أن يخفف ضغط الدم ، ورابعة لتفتح الشهية ، وخامسة وسادسة .. الخ من الأدوية والمسكنات . ومن المناظر المألوفة في مجتمعنا اليوم أو في مجتمع التجار وأرباب الأموال ممن أبتلوا بالربا فإنه إذا كسدت السوق لأمر أو لآخر ترى التجار المقترضين وأرباب الأموال المرابين وقد علاهم الوجوم وعصرتهم الهموم ، يقترض الواحد من جاره ليسدد القسط الذي حان موعده ، ثم يبيع حلي إمرأته ، ثم لا يجد شيئا يبيعه أو يقترض منه ، فيسقط صريع الربا في شلل أو مرض ، وعندها يموت في سكتة قلبية . وإرضاء ليهود والنصارى ، أباحت الفئة المتعاونة معهم الإحتكار ، فأصبحت بلادنا في قبضة الشركات الإحتكارية ، وأصبح كبار التجار يخزنون أقوات الشعب لدرجة أنهم يرفضون تخفيض السعر ليأخذوا بذلك ربحا وفيرا حلالا أو حراما ، فيبنون به القصور ، ويساهمون في البنوك . . وهكذا دواليك ، ولا يهمهم بعد ذلك أشبع الناس أم جاعوا ؟ اكتسوا أم عاشـوا في الأسمــال الباليــة الخرق المرقعــة ؟ وبعد ذلك يخرجـون على الناس (بأعمـال الخير) ليخففـوا على الناس كما يزعمون فينشئون لهم اليانصيب الخـيري ، ويتهافت الفقراء على شرائه طمعا في الربح السريع ، ويحرمون أطفالهم كل أسبوع أو كل شهر أو كل إصدار من ثمن ورقة اليانصيب ، فيزدادون فقرا على فقرهم ، وجوعا على جوعهم . وأفتتحت نواد للقمار تقليدا لنوادي الغرب ، هذه النوادي التي تتحطم فيها نفسية الإنسان وكرامته . وبعض نـوادي القمـار في أوروبا والغرب يعمرهــا أثرياء النفط ، فتنساب الأمــوال من بـين أيديهم إلى جيـوب يهـود والنصـارى لترتد علينـا بعد ذلك طائرات تقصف ومدافـع تدمـر ؟! .

ومن المسارعة في إرضاء يهود والنصارى هذه الأموال المكدسة في بنوك أوروبا وأمريكا ، سواء للدول أو للأفراد الأثرياء ، والتي تدعم عملات هذه الدول التي تتعاون مع يهود لإذلالنا لإفنائنا ، هذه الأموال التي لا يكاد يحصيها عدد ، تفقد قيمتها مع الزمن ، نتيجة للتضخم النقدي وللأزمات الاقتصادية التي هي من مميزات النظام الرأسمالي في هذا العصر . وهكذا تفقد الأمة ثروتها ، لأن الذين يريدون إرضاء يهود والنصارى لا يخططون لبناء أمة قوية ، ولا لدحر عدو ، ولا لإستخلاص حق .

وإرضاء ليهود والنصارى ومسارعة في إرضائهم ، أصبحت دور السينما في العالم الإسلامي تعرض أفلام الجنس ، ومؤسسات التلفزيون تنافس السينما في هذا المضمار ، والكل يعرض أفلام الجريمة والعنف ، وأطفالنا وأولادنا وبناتنا يرون فيتأثرون ويشاهدون فيقلدون كيف تتمرد المرأة على زوجها ، وكيف تحب جارها ، وكيف يخون الزوج زوجته ، وكيف يعاشر عشيقته ، ويبح صوت الوعاظ والمرشدين بالدعوة إلى الفضيلة والتمسك بأهداب الدين ، ويستمع الناس إليهم - هذا إذا استمعوا - كأنها أصوات جاءت من المجهول ، فيكون لصوتهم صدى يلامس الآذان ولكنه لا يدخل إلى القلوب ، ولا يؤثر في تغيير منهج الحياة . وأصبح المجتمع يعاني من الشباب المراهق الذي يقلد أفلام الكاوبوي وعصابات شيكاغـو والجنس المستـورد من هوليـوود ( وإن كان الشبـاب اليـوم بدأوا يعودون إلى الله ) .

ومن المسارعة في إرضاء يهود والنصارى إثارة النعرات القومية والوطنية والإقليميـة والطائفيـة والمذهبيـة . ومن المعلوم أن الإسلام هو دين الله للناس كافة ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : 107 ] ، فإذا إعتنقه الناس كانوا سواسية كأسنان المشط لا يتفاضلون إلا بالتقوى . ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن يكون للمسلمين إمام واحد وخليفة واحد ، يسوسهم بأحكام الإسلام ، ويرعاهم برعايـة الـقرآن وسنـة رسـول اللـه (صـلى اللـه عليـه وسلم) . يقـول رسـول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إذا بويع لإمامين فأقتلوا الآخر منهما " ، وحينما ذهبت دولة الإسلام وتآمر عليها يهود والنصارى ، قسمت بلاد المسلمين إلى دول ودويلات ومشيخات وإمارات ، وحكام هذه الدول والدويلات أو المشيخات أو الحارات كلهم ينـادي بالوحدة ، وكلهم لا يريدها ؟! الوحدة تعني إلغاء الإمتيـازات ، وإلغاء الجوازات ، وإزالة الحدود ، وأن تعود الأمة - كما أرادها الله - أمة واحدة (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون) [الأنبياء : 92] . فإرضاء ليهود والنصارى أصبحت القوميات تتقدم على الإسلام في بلاد المسلمين ، وهذا قومي عربي يتعرق بالعروبة كجنس وعرق ( مع أن العروبة بمعناها الثقافي واللغوي ، هي وعاء الإسلام ، ومفروض على كل مسلم أن يعرف لغة القرآن ، لأن عبادته لا تصح إلا باللغة العربية يقرأ بها القرآن ) . . وهذا تركي طوراني ، وآخر فارسي ، ورابع باكستاني ، وخامس وسادس . . ومن العجيب أنه في باكستان لما انفصلوا عن الهند باسم الإسلام ، ولم يطبقوا الإسلام في حياتهم ، فخافوا أن تسقط حجة التقسيم فجعلوا الإسلام قومية ، تحل محل القومية الهندية ، وهذا تحريف في الإسلام ، وتضليل للمسلمين ، وكما كانت التجزئة في بلاد العرب على صورة أبشع من بقيـة بلاد الإسلام ، ركز يهود والنصـارى على تثبيتها ، ففي بلاد الشام مثلا أنشئت أربع كيانات ، أعطي قسم الجنوب الغربي من بلاد الشام ( فلسطين ) إلى يهود ليقيموا عليها دولتهم ، وأعطي قسم الشمال الغربي ( لبنان ) منها إلى النصارى وأقاموا لهم فيه دولة وهذه الدويلة عملت على إضطهاد المسلمين فيها مع أنهم الأكثرية الساحقة من سكانها ، وأنشئت إمارة شرق الأردن في قسم الجنوب الشرقي من ديار الشام ، وبقيت سوريا الأم في الجزء الشرقي من ديار الشام دولة وحدها . وقسمت جزيرة العرب إلى إمارات لا تكاد تحصى ، ويتيه فيها العد ، والمفروض أن تندمج كلها بكيان واحد ، كما ينبغي أن يندمج المغرب العربي الكبير بدويلاته الخمس لتكون وحدة جغرافية واحدة ، وأن تعود الوحدة إلى شطري دولة باكستان ، وتضم إليها أفغانستان ، ويندمج الجميع مع بلاد إيران ، كما تتوحد بلاد الشام مع العراق ، ويتوحد الجميع مع مصر والسودان ، وهكذا بقية بلاد المسلمين في أفريقيا وفي آسيا . عند ذلك نكون قد أعلنا الرفض ، وتمردنا على التجزئة والتقسيم ، ورفضنا العنعنـات الإقليميـة والنعرات القومية ، وعدنا إلى محـور قوتنا الإسلام يوحـدنا ونكون في ظله كما أرادنا الله خير أمة أخرجت للناس .

إن الحكام الذين يتمسكون بأسباب الهزيمـة والفرقـة ومن لف لفهم من مسؤولين ومنتفعين من الذين يسارعون في إرضاء يهود والنصارى قد قطعوا صلتهم بالله ، فلم يعودوا يخافونه ، وإنما يخافون يهود والنصارى ، وإذا سألتهم لم هذه المسارعـة قالـوا (نخشى أن تصيبنا دائرة) [المائدة : 52] . فهم يخافون على كراسيهم ، ويخافون على دنياهم ، وكأنهم في الدنيا خالدون ، ولذلك يقولون (نخشى أن تصيبنا دائرة) . وهذا تصور منهم أن مصيرهم مرتبط بيد أعدائهم من يهود والنصارى ، إذا رضوا عنهم استمروا في سلطانهم وحكمهم ، أو في ملذاتهم وامتيازاتهم ، وإذا غضبوا عليهم أصابتهم الدوائر من عزل واستبدال ، مع أنهم لو توكلوا على الله فعملوا بما يرضي الله وتوحدوا على كلمة الإسلام فإن الله يكفيهم شر عدوهم (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [الطلاق : 3] . وما تعلقت أمة ولا فرد ولا جماعة بالله فخذلها الله . ومن خوف الحكام كان التفريط في الأرض المقدسة ، والعمل لتثبيت دولة يهود . وكان أشد الحكام (وطنية) أو (تطرفا) ممن والى يهود النصارى ينادي بقرارات التقسيم ، ثم توالت الهزائم ، وسقطت قطع أخرى في أيدي العدو ، وبدأ أشدهم تطرفا ينادي بإعادة ما أخذ عام 1967م ، أو بالأحرى ما سلم عام 1967م ، حيث لم تحدث معركة حقيقية على جميع الجبهات المحيطة بدولة يهود !! . وبدأت المطالبة تتقلص حتى وصلت كامب ديفيد حيث رأينا حاكما ، ممن والى يهود والنصارى يعطي فلسطين كلها ليهود وإلى الأبـد ( حسـب تخيـله ) ، وكل ذلـك لأنـه يخـاف على الـترف الـذي يعيشـه و (النعيم) الذي يحياه ، وهو في خوفه الدائم يخاف الحرب ، ويريد أن يمنع عن الأمة الإستشهاد ، ويعلن إلغاء الجهاد متحديا بذلك ربنا وعقيدتنا حيث الجهاد فريضة من فرائض الإسلام ، وهو ذروة سنام الإسلام ، جعله الله مكرمة للمسلمين حتى يستشهدون وينعمون في جنات النعيم . ولقد أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستمر الجهاد إلى يوم القيامة حيث يقول :"الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر" . ويقول تعالى (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة : 216] . وتوهم هذا الحاكم أنه يستطيع أن يقامر على عقيدة الأمة وكتاب الله وحضارة الإسلام ، وأن يجعل أمتنا أرقاما تافهـة ، وعقولا فارغة ، وأن يغرقها في المتع الرخيصة ، والحياة المهترئة ، وأن يفكك الأسرة ، ويحرم علينا الجنة ، حيث الجنة محرمة على الأذلاء ، لقوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ) [ النساء : 97 - 99 ] . ويتساءل سائل : أين يهاجر المسلم اليـوم وقد إنحرف الحكم بالإسـلام في كل بلاد المسلمـين ، فنقول له : إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب عن ذلك بقوله :" لا هجرة بعد الفـتح ولكن جهــاد ونية " ، وهذا الحاكم الذي قامر بحضارة المسلمين ، أصابه الغرور فصدق تصفيق الجماهير التي ساقها أعوانه لتصفق له ، وظن أن هذه الجماهير تؤيده حقيقــة ، وهي جماهير مسكينــة لا تدري ماذا تفعل ، تساق إلى المذبح وهي تصفق ، ويتآمر على مصيرها وهي ترقص ، وصدق الله العظيم (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) [الفرقان : 44] . وإلا فهل هناك عاقل من المسلمين المكلفين شرعا يخرج ليستقبل أعداءه من يهود هاتفا بحياتهم وحياة زعمائهم الذين اغتصبوا أرضه ، وأذلوا قومه ، وهتكوا عرضه ، ودمروا المدارس بأطفالها ، وحرقوا القرى بمن فيها ، وبقروا بطون الحبالى ، ولم يتورعوا عن بقر بطون الأطفال . هذه الجماهير التي كم صفقت لقاتليها ، ورقصت لذابحيها ، على إستعداد لأن تصفق لكل قادم ، وعلى إستعداد لأن تلعن كل ذاهب ، وهي بين التصفيق وبين اللعن معرضة عن ذكر الله ، وبذلك أصابها العمي (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [طه : 124-126] .

وهذه الجماهير لا تؤمن بالله إلا وهي مشركة ، ولكل فرد منها معبود مع الله ، فهذا يعبد الزعيم ، وهذا يقدس أقوال الحاكم ، وذاك يعبد المال أو المتاع ، وآخر يعبد الشيخ ، وآخر يعبد الحزب . وهذه الجماهير المسكينة التي ضللتها زعاماتها ، وخانها علماؤها من أعوان الحكام الذين باعوا آيات الله بثمن بخس من أجل منصب تافه أو عرض زائل .

حقوق الطبع محفوظة لكل مسلم   2006 ©