الصفحة الرئيسية > المؤلفات > الغيب في المعركة والتغيير الكوني > 2 > 3

( 3 )

 وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

 ويرجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يعيش بالغيب ومع الـغيب حتى دخــل الناس في دين الله أفواجـا ،  فأسلمـت اليمن بغير قتال ، أرسل إليها عليا بن أبي طالب ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - فكان لا بد من الرحيل من هذه الدنيا إلى جنة عرضها السماوات الأرض ..

 لم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أسلمت الجزيرة العربية كلها،  هذا الذي خرج وحيدا من مكة إلا من صاحبه ودليله ،  تدين العرب كلها له اليوم ،  فينزل عليه قوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم ( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك وأستغفره إنه كان توابا ) [ سورة النصر ] .  فلما سمع أبو بكر السورة بكى ،  فقيل له لم تبك يا أبا بكر ، والموقف موقف فرح ونصر، فقال : - ببصيرة المؤمن - والله ما تم امر إلا وبدأ بالنقصان ،  ففهم من السورة أن الله ينعى الرسول صلى الله عليه وسلم لنفســه وللمؤمنــين  ..  ويخرج الرســول صلى الله عليــه وسلم وكـان قــد مرض متكئـا على خادمــه ابي مويهبة ويقــول :" يا أبا مويهبة ،  أمرت أن أستــغفر لأهل البقيع - مقبرة المدينـة - وقال لــه :""  إن عبدا خـيره ربه بين الخلود في الدنيـا ثم ملاقاة وجه ربه والأخرة والجنــة وبين أن يلقى الله سريعـا ، فأختـار لقـاء الله  "" أو كما قال عليه الصلاة والسلام  .

 وينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ،  ويضطرب المسلمون بين مصدق ومكذب ، ويصدم الحدث العظيم عمر بن الخطاب فيقف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول : " من يقول إن محمدا قد مات فسأقتله بسيفي ، إن محمدا قد ذهب يناجي ربه كما ذهب موسى يناجي ربه " إلى أن جاء أبو بكر الصديق وكان خارج المدينة ،  فدخل المسجد بنفسية الصديق وإيمان ثاني إثنين إذ هما في الغار ،  والذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :"" ما عرضت الإسلام على أحد إلا ووجدت منه ترددا إلا ما كان من أبي بكر فإنه آمن ولم يتردد  ""، فيقف أبو بكر في المسجد ويقول : " من كان يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ،  ومن كان يعبد الله ،  فإن الله حي لا يموت " وتلى قول الله تعالى ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل إنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين * وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الأخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) [ آل عمران : 144 - 145 ]   .

الغيب في عهد الصحابة

 وقبل أن يوارى الرسول صلى الله عليه وسلم في قبره ، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعده ،  لينظروا أمر خلافة النبي ، فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، وصار نقاش وجدال ، أدلى كل برأيه وبحجته من الأنصار والمهاجرين ،  حتى أستقر الرأي على أبي بكر فكان الخليفة الأول  .

 وحتى يستمر الإسلام في دولة تطبقه ،  فالإسلام ليس دينا فرديا ،  فمن أحكامه ما هو مطلوب من الفرد ومن الاحكام مالا تستطيع تطبيقه إلا دولة ،  وعلى رأس ذلك الجهاد ،  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهز جيشا لإرساله لهذه الديار ( أطراف بلاد الشام ) ،  وأسند قيادته إلى أسامة بن زيد ، وكان شابا صغير السن  .

 وفـور وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأت الردة في العرب ،  مسيلمة وسجاح والأسود العنسي وغيرهم ، حتى إرتدت كل العرب ما عدا مكة ، والمدينة ،  والطائف والبحرين ،  فقرر أبو بكر أن يرسل جيش أسـامة ،  لكن الصحابة حاوروه في ذلك ، وأن الجيش يجب أن يبقى لحماية المدينـة خوفا من هجوم المرتدين عليها ،  فتمسك أبو بكر بالغيب ،  وقال : " كيف تريدون مني أن أبطل عملا عمله الرسول صلى الله عليه وسلم " - لم يقل عمله محمد بن عبدالله وإنما قال عمله رسول الله - إذن هي الرسالة والنبوة والغيب  .

 وكان في إرسال الجيش معنى كبير ، أثر في المرتدين ، إذ لو ظهر المسلمون في حالة ضعف لطمع فيهم المرتدون .  وهناك صورة أخرى للردة ،  بعض الذين إرتدوا من العرب رفضوا أن يدفعوا الزكاة ،  فارسل الصحابة عمر إلى أبي بكر ليطلب منـه عــدم مقاتلة الذين اعترفــوا بالإسلام ما عدا الزكاة ، فقال له : " ويلك يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خـوار في الإسلام ،  والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليـه " . .  إنه الإيمان بالله وبالغيب ،  ويدخل أبو بكر في معارك في طول الجزيرة العربية وعرضها ، يطارد المرتدين حتى إستقر الأمر للإسلام ، لا بكثرة عدد ولا عدة ،  ولكن بفيض من الإيمان وطلب الجنة والشهادة  .

 ويبدأ أبو بكر بعد أن استقر الأمر ،  وقضى على الردة في مهدها ، في تبلـيغ الرسالة ، وتأدية الأمـانة ،  فـيرسل الجيوش إلى الدولة الرومانية ،  ويعين أربعة من القادة : يزيد بن أبي سفيان : البلقاء ، وعمرو بن العاص : فلسطين ،  وشرحبيل بن حسنة : الأردن وأبو عبيدة عامر بن الجراح : قائدا عاما لجيوش الإسلام .  ويرسل إلى الدولة الفارسية جيوشا أخرى بقيادة المثنى بن الحارثة ومن ضمن قادته خالد بن الوليد .  فكان منطق السياسة والإعتماد على القوى المادية ، إن كانت هي المعتمـدة في المعركة ، أن لا يهاجم الدولتين العظميين في آن واحد ، وأن يبدأ بواحدة منهما حتى إذا ما إنتهى منها بدأ بالأخرى  .

 لكن الصحابة -رضي الله عنهم - وأبو بكر على رأسهم ، فهموا السر وعرفوا الحقيقة ، إنهم لم ينتصروا قط بكثرة جيوشهم ، وإنما النصر من عند الله (لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فأتقوا الله لعلكم تشكرون) [ آل عمران :123 ] ، وكان رسـول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديثه " نصرت بالرعب من مسيرة شهر " فهذا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين من بعده ،  ولكن أي مسلمـين ؟! ليسوا من هؤلاء الأعراب الذين يقول الله فيهم ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنـا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من عملكم شيئا إن الله غفور رحيم ) [ الحجرات : 14 ] .. إذن من هم المؤمنون ؟!! هم الذين قال فيهم الله بعدها مباشرة ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات :  15 ]  .

 ليسوا بعثيين ، ولا شيوعيين ، ولا علمانيين ، ولا ماسونيين ، ولا متبطلين من هؤلاء الصوفيه الغلاة ، الذين لا يقولون بالجهاد ،  ولا من هذه الحركات المشبوهة التي تحرم الجهاد ،  ولا من هذه الحركات التي تنظر إلى الإسلام على أنه نظام اقتصادي أفضل من الأنظمة الأخرى يشبع المعدة ،  والذين لا يقولون بالجهاد إلا من وراء خليفة مخالفين قول الله تعالى ( فقاتل في سبيل الله لا تلكف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) [ النساء :  84 ] ،  ومخالفين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ""  الجهاد ماض إلى يوم القيامة ،  لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر ،  وإذا أستنفرتم فأنفروا  "" ، ولكن هذه الفئــات المختلفة ،  منها من يريد الـنصر بغـير الله وما كان لها أن تنتصر .. ولو انتصر العرب في معركة 1967 ما عـبد الله في الأرض ، ولنسب النصر إلى البشر والزعامات وحكام المعصية ، وأحزاب الإلحاد ، ولكن الله كان رؤوفا بعباده ودينه فهزمهم شر هزيمة ،  ولم يهزمهم يهود ،  لكون يهود ممنوعين من النصر لأن النصر عزة والعزة ممنوعة على يهود ليوم الدين فما كان لهم أن ينتصروا (لن يضروكم إلا اذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون) [ آل عمران :  111 ]  .

 والذي حدث في عام 1967 لم يحدث في تاريخ البشرية ، ثلاثة ملايين من البشر ( يغلبون ) (150) مليونا من العرب إنه لأمر يثير الدهشة والعجب ،  هنا أروي قصة :((  حدثت (الهزيمة) وأنا في بيروت في مهمة رسمية ،  حيث كنت مديرا لدار الأيتام في القدس ،  فذهبنا نشتري ورقا لمطبعة دار الأيتام من السوق الحرة في بيروت ،  وبعد ذلك حضرت إلى عمان ثالث يوم ( التسليم ) ،  وبينما أنا سائر في أحد شوارع عمان الرئيسة ،  التقيت بمدير المخابرات في ذلك الحين محمد رسول زيد الكيلاني فقال :" أنت قلت لأخي أبراهـيم في القدس قبـل أسبوع وأنـتم في الأقصى ، صل صـلاة مودع لهذا المسجد فإنك لن تعـود "، وكان الشيخ إبراهيم زيد الكيلاني قد زارني في القدس ، وكان مسؤولا عن الأحاديث الدينية في الإذاعــة ،  فأراد أن يسجـل لي حديثــا ،  وكانت أجــواء الـحرب تسيطر على المنطقة ،  وكان عبد الناصر قد سحب البوليس الدولي من سيناء ،  تمهيدا لما حدث لإحتــلال بقية فلسطين وسينــاء كلها والجــولان .  فلما بدأ الشيخ إبراهيم في تسجيل الحديث ،  قلت له :"  يا شيخ إبراهيم ،  والله لا تنتصر هذه الأمـة لا على أيدي الثوريــين ولا على أيدي الرجعيـين ،  هي مهزومة لا محالة ،  لإنها أمة لا تحارب بعقيدتها ،  وقد أعلنت الحرب على ربها " ،  فقـال :" هذا كلام لا يمكن أن يذاع " .  فقلت :" سجله للتاريخ " .  فنزلنا إلى الأقصى فصلينا الظهر ،  ووضعت يدي على كتفــه فقلـت :"  يا شـيخ إبراهــيم صل صلاة مودع لهذا المسجد فإنك لن تعود " .  يذكر الشيخ إبراهيم هذه الحادثة بين الحين والحين في دروسه .  وكان قد أستولى علي شعور بأني أودع الأقصى ،  فكنت أرسمه في ذهني ،  أتطلع إلى معالمه وإلى جدرانه ،  وأقول في نفسي : " غدا سأذكر هذه وهذه . . وهذه " ،  فلما قابلني محمد رسول في أحد شوارع عمان بعد الهزيمة قال :"  أنت قلت لأخي الشيخ إبراهـيم صـل صـلاة مودع لهذا المسجد فإنك لن تعـود : ، قال لي :" كيف علمت ذلك ؟! " .. فقلت له بإنفعال :" والله لو نصرتم لكان القرآن من عند غير الله ،  كيف تنتصرون ؟ ولم تنتصرون !!؟ .  الحكومات إهترأت ،  والشعوب اهـترأت على أيديهـا ،  والمقدمات أعطت النتـائج ، والذي صار كان لا يمكن إلا أن يصير ،  وكنت أعرف أنكم مهزومون لا محالـة ،  ولكن الذي لم يدر في خلـدي ولا سجل في دفتري هو أنكم (ستهزمون) في ساعتين إثنتين فقط ،  لا في ست سنوات ،  ولا ستة أشهر ،  ولا ستة أيام ،  إذن الأيام الستة التي سميت بها هذه الحرب ،  هي من باب التضليل أيضا " .  ثم قلت له :"  إني غير يائس ،  وسيخرج الجوهر قريبــا من هذه الأمة ،  فتقاتل في سبيل الله ، لا في سبيل قومية أو إشتراكية ،  ولا رأسمالية ولا شرق ولا غرب ،  وعند ذلك سيأتي النصر "  .

 وأشاع محمد رسول الكلمــة في الأوساط السياسيــة ، بأني قلت لو انتصر العرب في هذه الحرب لكان القرآن من عند غير الله ، وجــاء الأمير سلطـان بن عبد الـعزيـز ، ليتفقد القوات السعودية ( المظفرة ) (التي احتلت معان والكرك) وأقام له السفــير السعودي في ذلك الوقت أحمد الكحيمي حفل عشاء ،  وكنت حاضرا لذلك الحفل ،  وكان في مجلســه في تلك الحفلـة عدد من السياسيين من بينهم وصفي التــل ،  فقـال وصفي التــل :" إن هنــاك شيخــا عندنا في الأردن يدعـى الشـيخ أسعد الـتميمي يقــول :"  لو نصر العرب في هـذه الـحرب لكان الـقرآن من عند غـير الله " ،  فقــال له السفـير الكحيمي :"  إنه موجود في الحفلة "،  وجاء وأخذني إلى مجلس الأمــير ،  فقــام وسلم وقــال الأمــير :"  كيف لو انتصر الـعرب لكان الـقرآن من عـند غير الله ؟!! " .  فقلت له :"  يا سيـدي إن القرآن وضــع شروطـا معينــة للنصر ،  لا تنطبق عليكم " .  فقــال الأمير :"  المسؤول عبد الناصر ؟ " ،  فقلت له :"  والله إني لأعرف عبد الناصر حقيقة المعرفة ،  ولكن ليس هو وحده المسؤول ، وكلكم مشتركون في الجريمة ،  ولكنه كبيركم الذي علمكم السحر " .. وكان في مجلس الأمير أيضا المشير حابس المجالي (قائد الجيش العربي) ، فألتفت إليه ووضعت يدي على رأسه وقلت :"أسألك بالصـلاة على الرسول هل أنتم أهل للنصر ؟ " ، فقال :"لا"،  فألتفت إلى الأمير وقلت هذا قائدهم " ))  .

 وكنت في الأقصى أحذر من النكبة في درس أسبوعي ،  وأحذر الأمــة من الذي سيحدث ، وخصوصا تحدي الله كان في أوجه ،  ففي المؤتمر الأول لمنظمــة التحـرير الذي عقـد في القدس سنة 1964 ،  وهم يضعون بما يسمى بالميثاق الفلسطيني ، قالوا إن المسؤولين عن تحرير فلسطين هم الفلسطينيون والعرب ، فقام واحد من المؤتمر وقال " أضيفوا المسلمين أيضا " ، فقــامت أصوات الحمير تنهق :" هذه رجعية "  وبعد نقاش حاد عرضوا الأمر على التصويت ،  فالذين يريدون المسلمين حصلوا على (151) صوتا ،  والذين لا يريدون المسلمين حصلوا على (162) صوتا ،  (فسقط الإسلام) حسب زعمهم على جبل الزيتون .  وأصابتني رعدة وأثارت أعصابي ،  وتمنيت أن يكون غدا الجمعة لأقول كلمتي في الأقصى ،  وكنت أهاجم المؤتمر والمؤتمرين في كل لحظة ،  لأنني تصورت غضب الله على هؤلاء القوم وأنهم سيشردون بقية أهل فلسطين في هذا القرار الكافر الجائر  .

 وجاء يوم الجمعة ،  فوقفت بعد الصلاة ، وكان مندوبوا الملوك والرؤساء قد جاءوا إلى الأقصى ليصلوا الصلاة التقليدية ، والتي تكون غالبا بغير وضوء ،  إذ أن الصلاة لا تليق بهؤلاء الذين صنعوا الهزائم والسخائم لأمتهم ،  وكان عدد هؤلاء المندوبين ثلاثة عشر مندوبا لا أكثر الله من عددهم ،  فوقفت في الأقصى بعد الصلاة أقول :(( ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، يا أخوتنا في الباكستان ، يا أخوتنا في أفغانستان ، يا أخوتنا في تركيا ، يا أخوتنا في نيجيريا .. أيها المسلمون في كل الأرض .. لا تؤاخذونا بما فعـل السفهــاء منا ، يا صلاح الدين وأنت الكردي ،  أطل من وراء القـرون لتر ما فعل الصبية على جبـل الزيتون ، لقد رقـص البـابا طربا على قـرار الصبيـة ليلـة أمس ، وأبشركم بذهاب البقية من (فلسطين) بسبب غضب الله ،  والتي لولا الإسلام لما كانت فلسطين عربية .  لكنه العمى أصاب العيون وأصم الآذان وأغلق القلوب وكما قال الله تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) [ البقرة :  7 ] )) .

 وكانت أيام فيها البلاء سيطر فيها الكفر ، ضلت الزعامة وضلت الشعوب إلا من رحـم ربك وقليـل ما هـم .. وكمـا قال الله تعالى ( ومن الناس من يقــول آمنــا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذيـن آمنوا وما يخدعون إلا أنفسـهم وما يشـعرون * في قلوبـهـم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب ألـيم بما كانوا يكذبون * وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) [ البقرة : 8-12 ]  .

 فإن قلت للحكــام وأعوانهم ،  وللأحزاب الكافرة وكوادرها من مختلف الأسماء والمسميات ، لا تفسدوا في الأرض قالوا (إنما نحن مصلحـون) أجاعوا الأمة وهم (مصلحون) ! ..  أذلوا الأمة وهم (مصلحون) ! .. سلموا فلسطين وهم (مصلحـون) ! .. مزقوا الأمة وهـم (مصلحون) ! .. وعبدوا كل شيء إلا الله وهـم (مصلحون) !!!  .

 وقد روي في تفســير الآية عن سلمــان الفارسي - رضي الله عنه - " لم تنزل هذه الآية في المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يكونوا يزعمون الإصلاح ، كانوا فقط يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ولكنها نزلت في أقــوام من هذه الأمة يبطنــون الكفر ويزعمون الإصلاح سيأتون فيما بعد !! " .  وكأن هـذه الآيـة تعني الحكــام ، والزعامات ،  والكتاب والصحفيين (المفكرين) الذين ضاعت هذه الأمة وفلسطين على أيديهم  .

 لا أنسى تلك الليلة من آخر رمضان قضيناه في القدس شهر (12/1966) وقد أحيينا ليلة القدر في الأقصى ، وجلست إلى الناس أتحدث إليهم بعد صلاة التراويح ،  تكلمت عن الحركات السياسية والفكرية في المنطقة من الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين إلى أن أتيت إلى الماسونية فقلت :" هي حركة يهودية سرية اقامها يهود بعد السبي البابلي ، وأدخلوا فيها الملـوك والأمراء والرؤساء والأغنياء ،  حتى يعملوا بواستطهم على إقامة دولة يهود ،  وقد أقاموها ،  وحتى يبنوا الهيكل مكان هذا المسجد ،  وبما أن أكثر حكام العالم العربي من الماسونيين فسيسلمون الأقصى ليس خيانة فقط ، ولكن سيسلمونه لأن عقيدتهم الماسونية تأمرهم بذلك " .  وهذا الكلام كان قبل تسليم الأقصى بخمسة أشهر ،  وبالفعل حين أخذ يهود بقية القدس وبقية فلسطين ،  أرسل محفل ماسوني في أمريكا رسالة إلى الشيخ المرحوم حلمي المحتسب ، وكان رئيسا للهيئة الإسلامية في القدس ، يعرض عليه أن يسمح المسلمون للماسونيين في بناء اليهكل في ساحات الأقصى مقابل (150) مليون دولارا دفعة أولى ، ودخل (15) مليون دولارا سنويا للأوقاف ، وقال رئيس المحفل الماسوني :"  إني قادم على الطريق لأفاوضكم بهذا الأمر " ، وبالفعل حضر هذا الماسوني ، فأفهمه الشيخ حلمي أنه ليس لأحد الحق في التصرف بالأقصى ، فهو للمسلمين جميعا ، وقال رئيس المحفل الماسوني للشيخ حلمي :" إن أردت موافقة بعض الحكام (العرب) أتيت لك بها "  .

 ولقد رأيـت بأم عيـني قائد الضفة الغربية في محافظة القـدس بيـده خاتم وعليه الشعار الماسوني (الفرجار والمثلث) .. وهكذا كان ، سلم الماسونيون الأقصى  .

 ونعود إلى أول الطريق ،  إلى قرون النصر ، ولنرى كيف تغلغل الإيمان في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا الإيمان الذي صنع المعجـزات والكرامات  .

  الغيب في معركة اليرمــــوك  :

 وهكذا سار الغيب مع المسلمين بعد رسول الله ، حتى كانت معركة اليرموك،  جمعت الدولة الرومانية ألف ألف جندي - أي مليون جندي - فيهم سبعة ملوك ،  ومن بينهم ملك الأرمن ،  وفيهم مائتا ألف من نصارى العرب - كما يقول الواقدي صاحب ( فتوح الشام ) - ،  وفي المقابل كان عدد جيش المسلمين ثلاثين ألفا من الموحدين ،  فأستنجد أبو عبيدة بالخليفة في المدينة ليرسل له مددا ،  فأرسل له الخليفة ستة ألاف من أهل اليمن  .

 ولا يستطيع أي عقــل مــادي أن يحـلل هــذه المعركــة بقياساته المادية البحتة ،  حيث أن عدد الجيوش وعدتها غير متكافئة ،  فجيش الإمبراطورية الرومانية ذات التاريخ العريق في الفنون العسكرية والتي هزمت قبل بضع سنين جيوش الإمبراطورية الفارسية ،  لا بد وأن لديهم من الأسلحة والتقنيات ما لا يعرفه العرب المسلمون الذين لا تاريخ عسكري عندهم ولا فنون ولا أسلحة إلا ما كان من السيف أو الرمح أو القوس أو النشاب  .

 ويقول أحد جنود المسلمين :" ما أكثر الروم وأقل المسلمين " ، فيجيبه خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ( الذي جاء حديثا من العراق على رأس خمسمائة جندي ، إجتاز بهم بادية الشام برعاية الله ، حتى إذا ما وصلوا الأزرق وكان الماء قد نفد منهم ، فقال الدليـل إبحثوا عن أصل شجرة في هذا المكان ،  فإن الماء عندها ، فبحثوا طويلا حتى كادوا أن ييأسوا ،  وأخيرا وجدوها ووجدوا الماء عندها ، شربوا وشربت جمالهم ، وأنفكت أزمتهم ) .  قال خالد لهذا الجندي الذي رأى الروم على كثرتهم :" بل ما أقل الروم وما أكثر المسلمين ، إنما تقل الجند بالهزيمة وتكثر بالنصر " ، وأختار خالد ستين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسمائهم ، ممن حضروا بدرا وأحدا والغزوات والمواقع جميعها وممن ترضى الله عنهم بقرآنه وممن بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنة عرضها السماوات والأرض وممن لا يرد دعائهم ،  فيخوض بهؤلاء الستين المعركـة ، فيخترق جيـوش الروم . ويغيبون طويلا فيشفق أبو عبيدة - رضي الله عنه - عليهم ويقول :" أهلك خالد أصحاب رسول الله " ، ولكنه لا يلبث حتى يعود خالد والصحابة ، فماذا كانت النتيجة ؟؟ . .  قتل من الروم مائتا ألف ، وغرق في النهر مائة ألف أخرى . وفتحت هذه المعركة التي إنتهت بها الدولة الرومانية كدولة عسكرية عظمى الأبواب لفتح فلسطين وكل بلاد الشام ،  ومصر وشمال أفريقيا وحتى بلاد الأندلس  . 

وكان من نتائجها أن يجتاز طارق بن زياد الممر ( الذي سمي باسمه بين ضفتي أفريقيا وأوروبا ) إلى إسبانيــا بأربعـة ألاف جندي موحد ،  فيفتح إسبانيا ويستمر حكم المسلمين لها ثمانية قرون ،  حتى أهلك المسلمين الترف ،  وعادوا قبائل ، بعد أن وحدهم الإسلام ،  كان لا بد من سنة الله أن تأخذ فيهم مداها ، فنكصـوا على أعقابهم خاسرين ، بعد أن فتحوا عقول أوروبا وخلصوها من الخرافة ،  لأن سنن الله في الكون لا يخرقها الله إلا لعباده المؤمنين ،  فإذا تسـاووا مع عدوهم في المعصيـة ، كانت الغلبة لمن هو أكـثر عـددا وعدة وقوة ووحدة ولو كانوا غير مسلمين .  إذ بفرقتهم وإختلافهم وترفهم وفجورهم عصوا الله وخالفوا أمر الله ( وأعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [ آل عمران : 103 ] .. فلما خالفوا هذه القاعدة القرآنية ، غضب الله عليهم ، فخرجوا من الأندلس مذمومين مدحورين .. ولكن إلى حين  .

-   الغيب في فتح مصر  :

 ويقنع عمرو بن العاص ،  عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - بفتح مصر ،  فيأذن له عمر ،  فيسير بأربعـة ألاف جندي ،  فلما وصل مصر أبطــأ عليه الفتح ،  فأستنجـد بعمر ، فأمـده بأربعة ألاف ( تمام ثمانية ألاف ) على كل ألف رجل منهم رجل يعد بألف رجل ،  وكتب إليه : " إني أمددتك بأربعة ألاف رجل على كل ألف رجل رجل ، الرجل منهم بمقام ألف رجل  : الزبير بن العوام ، والمقداد بن عـمرو ، وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد ، وأعلم أن معـك إثني عشر ألفـا ولا تغلب اثنــا عشر ألفا من قلـة "  .

 ليست قوتهم في القوة الجسدية فقط ، إنهم بشر كالبشر ، وفي البشر من هو أقوى منهم ومن هو أضعف ، لكن قوتهم مستمدة من الغيب . فهم من كبار أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم ، تتلمذوا في مدرسة الوحي وهم من أهل بدر الذين أنجدتهم الملائكة ، وحضروا معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  وقوتهم روحية بالإضافة إلى القوة الجسدية ،  إذا دعوا إستجاب لهم الله .  ولذلك كان قواد جيوش الفتح حريصيين على أن يكون بين صفوفهم رجال ممن حضروا معركة بدر ، والرسول صلى الله عليه وسلم قال في أهل بدر :"" لعــل الله تجلى على أهل بدر يوم بدر فقــال : افعلــوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم "" . 

وكلما إرتقى القائد أو الجندي المسلم بأشواقه الروحية وقربه من الله في تـلاوة للقرآن وذكر دائم وإستغاثة مستمرة ،  لا يأخذه الــغرور من عـدد الجيش وعدتـه ،  وإنما يعلم أن الــنصر من عند الله ،  لذا هو يسجد بين يدي الله في الليل والنهار ،  ويستمطر رحمة الله ،  وكان هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه معه ومن بعده  .

 فلما حاولت الأمة أو بعض قادة الأمة أن يعتمدوا على شعاراتهم وكذبهم وخداعهم ،  وعلى أن تستمد الأمة قوتها من حزبها الذي أسس من أول يوم على غير تقـوى من الله ،  دينه الإلحاد ،  وحقيقته الكذب والخداع ،  واعضاء الحزب يتربص بعضهم ببعض الدوائر،  كل يريد أن يطيح بصاحبه ليحل محله ،  كان لا بد أن يهزموا ( هذا إن هزموا )  فكيـف بهم وقد نفذوا مخططات عدوهم وهزموا أمتهم بغير هزيمة،  وسلموا الأرض لعدوهم بغير قتال ،  إلا في الإذاعــات وترديد الشعارات ،  هذا كله درس لنا ،  إننا إذا لم نلجأ إلى الله في المعركة ،  سنصاب بالهــلاك والبــوار ،  ولكن كل ذلك إلى حين .  وقد بدأت الأمة في الصعود بعد النزول إلى الحضيض ، لأنه يبدو من الإستقراء التاريخي أن الأرض المباركة لها (رسالة) ، تصل الأمة إلى الحضيض يوم سقوط فلسطين بما فيها القدس والأقصى في أيدي الكفار ،  فتكون الأمة في منتهى إنحطاطها متفرقة ، ممزقة الأوصال لا يجمعها الإسلام ، تكون فيها الإمارات والمشيخات والحارات فيطمع بها عدوها . عندها تبدأ الأمة في حركة الصعود ،  لأن سقوط القدس والأقـصى يهزها من أعماقهـا ، فتنقشع الغشاوة عن أعينها ،  ويتفتت الرين عن قلوبها ، وتأخذ في الصعود حتى تبلغ ذرى المجد مرة أخرى  . 

 وهكذا كان في الحروب الصليبية ، وفي حروب التتر وهو الآن في الحرب الصليبية اليهوديـة ، فبعد خيـانة (67) أصاب الأمـة جمود فكري وسياسي ،  وأصبحت تعيش في فراغ عقائدي ،  بعد أن إنكشفت عفونة الفكر الوافد (المستورد) ولكن بعد بضع سنين أخذت الأمة تتحرك ببطىء ،  والإسـلام يسري في عروقها وشبابها ،  بعد أن رأت أنها خدعت طويلا بالزعامة والزعيم وبالأحزاب وبحكام الهزيمة والسخيمة  .

 وبدأ في المجتمـع سريـان بطيء للصحوة الإسلامية ،  وكان لا يراها في عقد السبعينيات إلا من يهتم بها ، فالمساجد بدأ يرتادها الشباب بأعداد كبيرة ،  والجامعات والمدارس بدأ تحول فكري فيها ، وكنت أراقب بتتبع وأقـول لأصحابي وتلاميــذي :" إن أمـرا في الأرض يجـري ، هـو العودة إلى الله " ، وهكذا بدأ الإسلام ينتشر ، والصحوة تتصاعد في الطبقات المثقفة من المجتمع ، أساتذة الجامعات ، وخريجي الجامعات من مختلف التخصصات وخصوصا التخصصات العلمية من خريجي الغرب وأمريكا ، فأصدر كارتر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الحين أمرا في أواخر السبعينيـات بعد الـثورة الإيرانيـة للمخابرات الأمريكية أن تدرس هذه الصحوة الإسلامية ولو على مستوى إمام مسجد في حي  .

 واليوم يتفجر العالم الإسلامي بالصحوة والخير قادم ودولة الإسلام آتية ،  والإسلام الذي فتح مصر يعود اليوم كأقوى ما يكون ،  فتوة وإنبعاثا واستشهادا وسيصل الأمر مـداه ويسقط عملاء أمريكا ويهـود للمكان اللائق بهم في مزبلة التاريخ  .

 ولما أبطأ عمرو بن العاص في فتح مصر ، استغرب عمر بن الخطاب،  لأن جيوش الإسلام منذ عهـد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عهد عمر والخلفــاء الراشدين والأمويين وفي كل عصور التاريخ ، لا تعرف الإبطاء في الفتح ،  لأنها لا تعتمد على قوتها المادية ، وهم جند الله يقاتلــون في سبيل الله ،  لرفـع كلمة الله ،  ولتطهير البشرية من عبادة غير الله ،  فلا يمكن أن يبطأ عليهم الفتح ،  إذن لا بد من سبب يؤخر الفـتح ،  فيكتب عمر هذه الرسالة إلى عمرو :( أما بعد ،  فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر ،  تقاتلونهم منذ سنين ،  وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم ،  وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ،  وقد كنت وجهت إليك أربعــة نفر وأعلمتـك أن الرجــل منهم مقام ألــف رجل على ما كنت أعرف ،  إلا أن يكون غيرهم ما غيرهم ،  فإذا أتاك كتابي فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية ،  وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس ،  مر الناس جميعا أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد ،  وليكن ذلــك عند الــزوال يــوم الجمعــة ، فإنهـا ساعــة تــنزل الرحمـة فيهـا ووقــت الإجابــة ، وليعج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم  ) [ منتخب كنز العمال 2 : 183 ]  .

 ونفهم من الرسالة مقاصد عمر ،  أن النصر بيد الله ،  إن الله لا يخذل قوما خرجوا في سبيله إبتغاء مرضاته ،  فإذا تغيرت النية من خروج لأجل الدنيا بدلا من الآخرة عند ذلك يبطيء النصر ،  ونلاحظ هنــا أنه يتكلم عن الأربعــة الذين أرسلهم لنجـدة عمرو ،  وجعل الواحد منهم بألف ،  لأنهم جميعــا من أهل بدر .  فيخشى عليهم عمر أن يكونوا قد غيروا النوايا ،  وأصبح خروجهم لأجل الدنيا ،  وفي الرسالة يبين لنا عمر أن هنــاك ساعات يستجاب فيهـا الدعاء أكـثر من غيرها ومنها وقـت زوال الشمس يوم الجمعـة  .

 وبالفعـل نفذ عمرو وصيـة أمير المؤمنين ، وفتحت مصر لتكون حبة العقد في العالم العربي والإسلامي عبر التاريخ ،  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر بفتحها ،  وقال :"" ستفتح عليكم مصـر ، فأستوصوا بأهلها خيرا ، فإن لكم فهيا نسبا وصهرا "" إذ أن ( ماريا القبطية ) أم إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مصر ، وكذلك (هاجر) جدة النبي صلى الله عليه وسلم الأولى أم إسماعيل عليه السلام وزوجة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من مصر  .

 

وفي حديث آخر عن مصر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :""إذا فتحت عليكم مصر فأتخـذوا منها جندا كثيفا ، فإنهم خير جند الأرض "" . لذلك حينما ( كبر ) جند مصر يوم اقتحام قناة السويس وخط بارليف في معركة (1973) كانوا يمثلون روح الجندية الإسلامية ،  وإستبسال الجندي المصري ،  الذي وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خير جند الأرض  .

وها هي مصر مرة أخرى تعود لتحمل الإسلام وتقود المعركة في تحطيم الأصنام والعمل فيما أمر الله والإبتعاد عما نهى ،  يتغلغل الإســلام في كل شرائح المجتمع الـمصري ،  وكلما إرتفعت الشريحة ثقافة وعلما وفكرا كلما كان الإسلام فيها أوضح وأعمق  .

 لذلك فلننتظر دور مصر المأمول وجندها خير جند الأرض في أن تعود لتحرر فلسطين بعد أن تتحد مع الشام ،  لأن إتحاد مصر والشام دائما هو الذي يحرر الأقصى والقدس وفلسطين من الغزو الكافر  .

 -   الغيب في معركة القادسية  :

 وفي نفس الوقت يرسل أبو بكر الجيوش لفتح العراق وفارس ، ويعين المثنى بن الحارثة قائدا لهذه الجيوش ،  ويبدأ الفتح ،  ويستشهد المثنى ،  وينتقل أبو بكر - رضي الله عنه - إلى الرفيق الأعلى ،  ويتولى الأمر عمر ،  ويولي القيادة مكان المثنى إلى سعد بن أبي وقاص ( أحد العشرة المبشرين بالجنة ،  وخال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأول من رمى بسهم في الإسلام ،  وأول من فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه وهو يقول له يوم أحد : "" ارم سعد فداك أبي وأمي "" ، وهو الذي كان يفتخر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : "" هذا سعد خالي فليرني أمرؤ خاله "" وهو من أخواله وليس شقيقا لأمه ) .  ويسير سعد من نصر إلى نصر ،  حتى إذا كانت القادسية ،  وتتكرر العملية في القادسية كما كانت في اليرموك . 

ثلاثون ألفـا يقابلـون مائتي ألف ،  مع جيش إمبراطوري مدرب ،  وتاريخ عسكري عريق ،  سيطر فيه الفرس على نصف الدنيا .  ويجتاز جيش المسلمين نهر دجلة على الخيل ،  وكان سعد على فرس وبجانبه سلمان الفارسي على فــرس أخرى ،  فقـال سعد - رضي الله عنه - :" لقد ذلل الله لهـؤلاء البحر كما ذلل لهم البر "، فيجيبــه سلمان - رضي الله عنه - فاهما السر في النصر :" مالم يعصوا "!! .

 وقبل أن تبدأ القادسيـة بدأت الرسل بين سعد ورستم ، قائد جيـوش الفرس .  فيرسل إليه سعد القائد ربعي بن عامر ،  فيدخل على رستم ،  ورستم في أبهة الملك وزخرف الدنيا ،  وسجاده الذي لم يعرفه العرب ،  فلا يملأ ذلك عيني ربعي بن عامر ، ويدخل على مجلسه ويضرب السجاد برمحه ويبدأ بينهما حوار ،  وصورة العرب عند رستم أنهم جياع عراة صعاليك ،  لا بد أن الجوع جاء بهم ،  وأن اللباس الفاخر دفعهم لهذه المجازفة  .

 فيقول لربعي بن عامر :"  إن كانت بلادكم في قحط ،  فنحن على استعداد أن نعطي كل جندي عندكم ما يشبعه ،  ونحظي قائدكـم بالشيء الكثير ،  فلا يصيبنكم الغرور " ،  لأنكم تواجهون إمبراطورية لها تاريخ في العسكرية ،  وممارسة قهر الشعوب ،  لأننــا نعرفكم في جميع الأحوال ومنها حال جوعكم وعريكم ،  فأرجعوا خيرا لـكم  .

 فيجيبه ربعي بن عامر :"  كنا كما قلت وأسوأ ،  حتى جاءنا نبي منا ،  لنا وللبشرية كلها ،  أمرنا أن نخرج من عبادة العباد والأوثان إلى عبادة الله ،  وأن نخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ،  فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينــا ،  ونترك فيكم من يعلمكم الإسلام ،  وإلا فالحكم بيننا للسيف " . .  وهكذا كان ،  وتنهار الإمبراطورية الفارسية  .

 وكان رسـول الله صلى الله عليـه وسلم يوم أن ولد ، اهتز إيوان كسرى في المدائن ، وأطفئت نيران معابدهم (بعد أن بقيت مشتعلة لمدة ألف عام) وهذا إرهاص لهم بأن في الدنيا حدثا جديدا ، ستتغير الدنيا فيما بعد يوم رسالته ،  ويوم أن بعث صلى الله عليه وسلم الرسالة إلى كسرى ومزق كسرى الرسالة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"" مزق الله ملكه ، لا كسرى بعد اليوم "" ..  وفتحت القادسية بلاد المشرق حتى الهند وأسوار الصين  .

 ويسير المسلمون من غلب إلى غلب ،  ومن فتح إلى فتح ،  ويدخل الناس في دين الله أفواجا ،  ولكن بعد فترة زمنية يتسرب إلى الإسلام فلسفات لا يعرفها ،  وأفكـار يرفضها نتيجة للخطأ الكبير الذي إرتكبه أبو عبدالله المأمون الخليفـة العباسي ، حين أمر بترجمة الفلسفات الغير إسلامية ، الفلسفات الهندية ، والفارسية ،  واليونانية ،  والرومانية ،  والنصرانية واليهودية ،  مما سبب انحرافا في الفكر الإسلامي  .

 وكانت الدولة العباسية قد أخذت موقـف الدفـاع عن الدولة الإسلاميـة الكبيرة ( إلا قليلا من الهجوم )  التي فتحها الصحابة والأمويـون ،  بــدلا من الجهاد ومبــادرة الهجوم في نشر الإسلام في العباد والبلاد ،  وهذا نتيجة للترف الفكري ، والترف المادي ،  الذي انغمست فيه الدولة العباسية ،  مما أضعف روح الجهاد وروح التحدي والإستشهاد .  فمن المعروف بداهة وتاريخيا ،  أن الفرد إذا فقد روح التحدي مات ،  وأن الجماعة إذا فقدت روح التحدي ماتت ،  وأن الدولة إذا فقدت روح التحـدي ماتت ،  ولو قبل الرسول صلى الله عليه وسلم نصيحة عمه ،  يوم أن جاءت قريش تشتكي النبي صلى الله عليه وسلم تتهــدد وتتوعــد ،  فيشفق عمه على نفسه وعلى ابن أخيـه ويقـول له : يا أبن أخي :" لا طاقة لنا بقتال العرب كلها ".. ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل التحدي فيقول  : ""والله يا عماه ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه "" .. ويمضي الرسول صلى الله عليه وسلم باكيا فيشفق عليه عمه ويقول له : " إرجع يا أبن أخي لن أسلمك أبدا " ، وكانت قريش قبل ذلك عرضت عليه الملك والمال والنساء ومغريات الدنيا كلها .  وكانت نتيجة هذا التحدي إنتشار الإسلام وهزيمة قريش وإقتلاع الإمبراطوريات وبقاء هذا الدين إلى يوم القيامة ،  يدخل أتباعه الجنة ويدخل أعداءه النــار  .

 - الغيب في الحروب الصليبية 

ويفقد المسلمون هذه الروح ( روح التحدي ) ،  يضعف الفكر الإسلامي الصافي في النصف الثاني من الدولة العباسية ،  ويغوص الناس في وحل الفلسفات التي لم يعرفها المسلمون الأوائل ( لا الصحابة ،  ولا التابعون ) وتبدأ الدولة الإسلامية ، بالتمزق ،  وتذهب الأندلس ،  وتنشأ شبه أقاليم مستقلة في الدولة الإسلامية الواحدة ،  ويفقد المسلمون الإبداع ( الرؤيا بنور الله ) ويأتي التتر بهمجيتهم وبداوتهم فيحتلون بغداد ،  ولأنهم ضد العلم وضد النور ،  فيدمرون مكتبات بغداد الكبرى ،  ويرمون الكتب في نهر دجلة ،  فيتحــول لــون النهر إلى لون الحبر ،  الذي نزل من الأحــرف التي كتبـت بهـا الكتـب .  في هذا الجـو جـاء الصليبيون ليخلصوا قـبر المســـيح - كمـا يزعمــون - من الوثنين يعنــون بذلـك المسلمـين - قاتلهم الله - ،  وهذا تناقـض في عقـيدتهـم ،  ( فربهم موضـوع في قــبر ؟!!!) أي رب هذا الذي يموت ويوضع في قبر ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ) [ الكهف :  5 ] ،  ( قاتلهم الله أنى يؤفكون )  .

 ونتيجة للظلام الذي كانت تعيش به الأمة ،  والإنحراف الذي بدأ على حكامها وعامـة المسلمين ،  إستطاع الصليبيون أن يأخذوا كـل فلسطـين ولبنــان حتى الإسكندرونــة ،  وفي الجنوب امتدوا حتى الكرك والشوبك ،  وأصبح قسم كبير من ديار الشام تحت قبضة الصليبيين  .

 ولما دخل الصليبيون القدس ،  قتلوا سبعين ألف مسلم في يوم واحد ،  وغاصت خيولهم في دماء المسلمين إلى الركب .  وأستمر إحتلال الصليبيين للقدس ما يقرب من تسعين سنة ،  وأستمرت الحروب الصليبية مائتي سنة ،  ولقد حاول الصليبيون مرارا أن يحتلوا مصر ،  قلب العالم الإسلامي العربي النابض .  وكان يحكم مصر في أواخر الدولة الفاطميــة الباطنيـة وزير يسمى شاور،  الذي تحالف مع الصليبيين ضد صلاح الدين ،  كما فعل السادات ومبارك حذو النعل بالنعل ،  وأيضا كما تحالف فهد وحكام الخليج حينما تحالفوا مع الكفر بقيادة أمريكا الصليبية وأوروبا الصليبية الحاقدة ،  بالإضافة إلى الأسد ومبارك في حرب الخليج ضد الأمة ( قاتلهم الله أنى يؤفكون )  .

 ولكن الله كان رحيما بهذه الأمة وهو دوما بها رحيم ، فجاء نور الدين زنكي - رضي الله عنه - ، فبدأ يوحد الإمارات المتنافرة في سوريا والـعراق ، فلما وحدها توفاه الله ، وانتقلت الراية إلى صلاح الدين الأيوبي -رضي الله عنه-،  فأكمل توحيد أجزاء الأمة وخصوصا مصر والشام ، لأن مصر والشام قطبـا الرحا في بـلاد العرب والمسلمين ، وقضى صلاح الدين على بقية الدولة الفاطمية في مصر وقتل شاور ، بعد ذلك حدثت معركة حطين في شمال فلسطين ،  والتقـى جيش المسلمين بستة وعشرين جيشا للصليبيين ، فهزمهم الجيش الإسلامي ،  فسئل صلاح الدين :"  كيف هزمت ستا وعشرين جيشا ؟ " فأخرج القرآن وقال :" قاتلت من أجل رب هذا الكتاب ، فنصرني رب هذا الكتاب " .

 ويدخل صلاح الدين القدس في رجب ،  وعاد المسجد الأقصى إلى طهره وقدسيته ،  بعد أن دنسه الصليبيون ما يقرب من تسعين سنة .  ثم أتم تطهير فلسطين وبلاد الشام والمنطقة كلها من الصليبيين الظاهر بيبرس - رضي الله عنه - وعادت هذه الأرض عربية إسلامية قرآنية موحدة وأخذ الغيب يعمل عمله  .

 ولما عادت أوروبا منهزمة بعد حروب مريرة ،  إستمرت قرنين من الزمن كلفتها ملايين الرجال والنساء ومالا يحصى من الأمــوال ، عادت تفكر في الذي سبب لها الهزيمــة ، فعرفت أن السر في الإسلام ،  الذي يجعل الجهاد ذروة سنامه ، والـذي كـاد يحرم الجنة إلا على المجاهدين ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنـة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنـوا معـه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريـب ) [ البقرة : 214 ] .. (أم حسبتم أن تدخلـوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكــم ويعلـم الصابرين) [ آل عمران : 142 ] . . هذا الدين الذي يجعل الشهادة هي الحياة بعينها ،  ويرفض بل يحرم أن يقال للشهيد ميت ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكـن لا تشعرون ) [ البقرة : 154 ] ،  ويقـول الرسول صلى الله عليه وسلم :"" جعل الله للشهداء في الجنة مائة درجة ،  بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض ،  وإن أوسطها الفردوس - أي خيرها وأحسنها - فاسألوا الله الفردوس "" ، وإن الله يعطي الشهيد خمسا لا يعطيها لغيره  :

 -     يغفر له مع أول قطرة تنزل من دمه  .

-     يأمن من عذاب القبر ،  ومن الفتن  .

-     يلبس تاج الفخار ،  الجوهرة فيه تساوي الدنيا وما فيها .

-     يزوج بسبعين من الحور العين  .

-     ويشفع في سبعين من أهله  .

-   الغيب في الدولة العثمانية

 وكان المسلمون قد دخلوا في ظل الدولة العثمانية ،  وحملت الدولة العثمانية الإسلام بغير لغته ،  وفتح محمد الفاتح القسطنطينية ،  وهنا يصدق الغيب مرة أخرى وتشمله دعوة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال :""  تفتح عليكم القسطنطينية ،  نعم الأمير أميرها ،  ونعم الجيش ذلك الجيش ""  .

 حينما هجم محمد الفاتح على القسطنطينية الهجوم الأخير ،  وكان قد هاجمها عدة مرات ،  ولم يفلح في اختراق حصونها ،  وكان معه أستــاذه ،  أحد العلمــاء الأفاضل ،  فأشار عليه أن يلجأ إلى الغيب ليرضي الله سبحانه وتعالى .  فيأمر الجيش أن يصوم ثلاثة أيام وأن يتلوا القرآن فيها ،  حتى إذا كان يوم الهجوم أمرهم بالاغتسال والتطهر .  بعد ذلك بدأ بالهجوم ، ففتحت القسطنطينية ، فسجد محمد الفاتح على الطين في شوارعها ، خوفا من أن يصيبه الغرور ، بعد أن أصابته بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه نعم الأمـير ،  وجيشه نعم الجيش ، وتضطرب أوروبا ويضطرب العالم الكافـر ، فيرسل البابا رسولا إلى محمد الفاتـح ، ويعرض عليه أن يتنصر وهــو على استعـداد ليعطيــه كل أوروبــا ،  لكنـه - رضي الله عنه - لم يأبه لهذا وسارت جيوشه تفتح أوروبا حتى وقفت من بعده على أبواب فيينــا  .

 وقد صدق الغيب مع محمد الفاتح بعد خمسمائة سنة من الإسلام ،  فيصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ..  وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب على قبره .  ولقد شعرت براحة نفسية عجيبة حين زرته  .

 ولأن الدولة العثمانية جعلت اللغة التركية هي لغة الدولة ،  ولم تجعل اللغة العربية التي هي لغة القرآن والإسلام بدلا منها ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) [ يوسف : 2 ] ..  والآيات كثيرة في هذا الموضوع ،  إذ أن الإسلام لا يفهم إلا بلغته ،  فلا يمكنك أن تستنبط الأحكام من القرآن والسنة إلا إذا كنت عالما باللغة العربية وأسرارها ،  والحقيقة والمجاز والناسخ والمنسوخ ،  ولذلك في العصر التركي على عظمة ما قامت به الدولة الإسلامية العثمانية جمد العقل المسلم ،  وأٌقفل باب الإجتهاد ،  وسيطر على المسلمين الخرافة والصراع المذهبي ،  حتى وصل الأمر عند بعض ( العلماء ) أن يقولوا هل يجوز الشافعية أن تتزوجع من الحنفي أو بالعكس !!! .

 فخططت أوروبا بصبر وطول أناة لتعمل على نزع المسلمين من الإسلام ،  أو نزع الإسلام من المسلمين .  لم تلجأ إلى الحروب ،  لأنها خسرت في الحروب مع المسلمين ، فلجأت إلى المدارس ،  والمعاهد ،  والجامعات ،  والنوادي والجمعيات  .

 في هذا الوقت كانت النهضة الأوروبية المادية ،  والتقدم الصناعي المذهل ،  فأثر ذلك في نفوس الشباب المتعلم ، الذي تخرج من جامعات الغرب ،  فعزوا هذا التأخر الصناعي في المسلمين إلى الإسلام ظلما وعدوانا ،  وكانت الدولة العثمانية (الرجل المريـض) ، ينهشها الغرب من كل ناحية ، وكان السلطـان عبد الحميـد - رحمه الله - يقاوم وحده بما أوتي من الدهاء والمراوغة حتى تغلبوا عليه فعزلوه ،  تعاون في عزله القوميون الأتراك ،  والقوميون العرب ،  والماسونيون ،  والعلمانيون ،  ويهود والنصارى .  وكان لا بد من عزل عبد الحميد - رحمه الله - حتى يصدق الغيب في إقامة دولة ليهود ،  لأن عزله كان اللبنة الأولى في إقامة دولة إسرائيل  .

 إذ أن يهود فاوضوه قبل ذلك بعدة سنوات ،  حتى يعطيهم امتيــازات في فلسطين ،  وقد عرضوا عليه في آخر الأمر أن يسددوا ديون الدولة العثمانية ،  وأن يصلحوا الأسطول العثماني وأن يدفعوا له شخصيا مائة وخمسين مليون دينارا ذهبا ،  وقد أرسل يهود له رجلا من زعمائهم يقال له (قارصو) ،  فلما عرض الأمر على السلطان عبد الحميد ،  طرده من مجلسه شر طردة ،  وقال لرئيس ديوانه من أدخل علي هذا الخنزير ،  وكان عبد الحميد قد أفهم اليهودي أن الأرض المباركة ليست ملكا له ،  وأنما هي ملك لكل المسلمين في الأرض ،  وأن حفنة تراب منها تساوي أموال يهود التي في العالم  .

فهـل سمعتم بهذا يامن تفاوضون يهود على فلسطين الآن ، وتريدون أن تتنازلوا عنها ليهـود (بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين) [ البقرة : 93 ]  .

 وقامت الحرب العالميــة الأولى ،  وقضي على الدولة العثمانيـة ،  وكان يجب القضاء عليها حسب الشريعة الإسلامية إذ لم تعد دولة إسلامية بعد عزل السلطان عبد الحميد ،  استولى عليها العلمانيون والقوميون والطورانيون ،  فأرادوا تتريك الشعوب الإسلامية ،  وحاربوا كل من له علاقة بالحضارة الإسلامية أو اللغة العربية  .

وكانت هزيمة الدولة العثمانية أول الطريق لإقامة دولة يهود ،  وقد غاب الإسلام عن الساحة ،  فلم يبق منه إلا رسوم وذكريات باهتة ،  وأباطيل وخرافات نسبوها إلى الإسلام  .

 وقسمت بلاد المسلمين ، وقسمت بلاد الشام بين فرنسا وبريطانيا فيما يسمى بمعاهدة " سايكس بيكو "،  فأخذت بريطانيا فلسطين وشرق الأردن والعراق ،  وكانت مصر معها قبل ذلك ،  وأخذت فرنسا سوريا ولبنان ،  وسيطر الفكر الكافر في كل مناحي الحياة ،  وحورب الإسلام باسم التقدم واللحــاق بالغرب . . ومن العجيب أن الذين حملوا هذه الأفكار " فكر ترك الإسلام من أجل أن نلحق بالغرب " لا يزالون يستوردون الأحذية من الغرب ،  وأتفه الأشياء ،  فكيف بالصناعات الثقيلة ،  وهم أنفقوا جيمع أموال الأمة على شراء أسلحة الغرب ،  لا ليحاربوا !!؟ ولكـن ليسـاعدوا الغـرب في حـل أزمـاته الاقتصــادية ،  وكذلك فعلـوا مع الشــرق ( الاتحاد السوفياتي سابقا )  .

 

وأعطت عصبة الأمم المتحدة الإنتداب على فلسطين وشرق الأردن إلى بريطـانيـا ، وكانـت بريطانيا قد أصـدرت وعدا لليهـود (وعد بلفور) في (2/11/ 1917) بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين ، والحرب الكونية دائرة .  وقد كشفت روسيا هذا الوعد " وعد بلفور " للعالم حينمــا نجحت الثــورة البلشفيــة وأستولى الشيوعيون على الحكم عام  1917 ،  لكن العرب مضوا في تصديق الحلفاء والعمل لصالح الحلفاء مخالفين بذلك القرآن ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليـاء من دون المؤمنين ) [ آل عمران :  28 ]  .

 وأنتهت الحرب بانتصار الحلفاء .  فمزقوا الدولة العثمانية شر ممزق ،  وعينت بريطانيا أول مندوب سام لها في فلسطين يهودي ، أسمه ( هربرت صمائيول ) ،  ومكث مندوبا في فلسطين مدة ست سنوات ،  وضع فيها القوانـين والأنظمـة تمهيدا لقيام دولة إسرائيل ،  وكانت قوانينه كلها تعمل لهدم العرب في بـلادهم ،  وإنتزاع أرضهم منهم  .

 وثار الشعب الفلسطيني على قلة عدته عدة ثورات متلاحقـة عام (1921-1929-1933-1936 إلى 1939) ثم قامت الحرب الكونية الثانيـة ،  ولم تستطع بريطانيا ولا يهود أن يأخذوا فلسطين من أهلها ،  فخرجت بريطانيا (عـدوة المسلمين الأولى) على العرب بفكرة إنشاء (الجامعة العربية) عام 1945 لتتولى الجامعة العربية تسليم فلسطين ،  وتثبيت التجزئة بين العرب  .

وسلمت الجامعة العربية ثلثي فلسطين عام 1948 ،  وسلمت الباقي عام 1967 ،  ولكن هل إنتهى الأمر ؟  وكيف سينتهي ؟ والغيب يقـول قامت دولة إسرائيــل لفــترة محدودة ،  وقامت لتزول ،  لكنــه عذاب الله المفروض على يهـود إلى يوم الدين ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيـامة من يسومهم سـوء العــذاب ) [ الأعراف : 167 ] ..  فالبرغم من أن ليهود دولة أو شبه دولة ،  وقد أعطاها الكفر جميع أنواع الأسلحــة ،  حتى القنبلة النووية ،  فهل تعيش بأمن وطمأنينة ؟! إن واقعها يقول ،  آن آوان الأفول ،  ويستمر الغرب الصليبي في تثبيت دولة إسرائيل ،  فيصدر قرار الأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم فلسطين إلى عربيــة ويهودية ،  ويقاوم الفلسطينيون ،  وتتدخل الجامعة العربية لتأدية رسالتها والتي من أجلها أسست .  وكانت تتألف من سبع دول عربية - لا بارك الله في عددهم ولا فيهم - وأقام الحكام التقليديون دولة يهود ، وكان الذي يسير الجامعة العربية في ذلك الحين رجل المخابرات البريطاني الـمشهور (كلايتون) ، وحينمـا دخلت الجامعة العربية فلسطين لتحررها بل قل لتسلمها منعت الفلسطينيين من الجهاد ، بحجة أن الجيوش ستحارب ، ولم يكن يهود في ذلك الحين يملكون أسلحة لا متطورة ولا تقليدية بكميات وافرة ، وكان من السهل القضاء عليها في مهدها ، ولكنها حب الدنيا وكراهية الموت ، وحب الألقاب الضخمة كانت تستولي على عقول هؤلاء الحكام .

 ألقاب مملكة في غير موضعها      كالقط يحكي إنتفاخا صولة الأسد

 ويقفـز إلى الحكم الثوريون في انقلاباتهم المتتالية في عالمنا العربي ،  وجميعهم أعلنوا في بيانهم رقـم (1) شتم الاستعمار والإمبريالية ،  ويتوعدون ويتهددون وأنهم جاءوا لتحرير فلسطين .  فظلموا الشعوب وعذبوا البشر ،  وقتلوا النفس ، وهتكوا العرض ، وأخافوا الأطفال والنساء والرجال ، وجوعوا الناس أجمعين كل ذلك باسم فلسطين . ولقد طبقت أمريكا على أيديهم الاشتراكية،  التي لا تعني في حقيقتهــا إلا التســاوي في الظلم ،  والتساوي في هدر الكرامة ،  وقتل كل كريم وقتل كل موحد وكل مفكر  .

 وأذكر في هذه المناسبة حينما حكم عبد الناصر على المرحوم (سيد قطب) بالإعدام ، وقفت في الأقصى بعد صلاة الجمعة كعادتي في ذلك الحين ،  قلت له لا تعدمه ، وحذرته من ذلك ،  لكن عبد الناصر كان ينفذ مخططا ،  ويعمل على تثبيت دولة إسرائيل بما أوتي من جبروت وطغيان وفساد ، هو وزمرته الذين يحرقـون الباخـور بين يديه ، ويؤلهونه كما لم يؤله بشر في التاريخ ،  ولما أعدمه وقفت في الأسبوع الذي يليه ،  وكنت لا أذكر عبد الناصر باسمه الصريح في خطبي ،  وإنما أشير إليه وإلى غيره من الحكام بصفاتهم ،  ولكني في هذه المرة ذكرته باسمه فقلت :" يا عبد الناصر ،  يا عدو الله أيها الفرعون الصغير ،  قتلت سيد قطب لتقتل كل داعية ،  وتخيف كل عالم ،  وتمنع كل مفكر ،  قتل قبلك الحجاج ( أحد ظلمة التاريخ في الأمة الإسلامية ) سعيد بن جبير - رضي الله عنه - من كبار التابعين ،  بعد أن صلى ركعتين محتسبا لله ،  فما ذاق الحجاج بعدها الراحة والطمأنينـة ، وكان سعيد بن جبير يأتيــه كل ليلة في منامه يقهقه في وجهه فيفيق مذعورا ويقول : ( قتلني سعيد ،  مالي ولسعيد ) .. والله يا عبد الناصر أيها الفرعون الصغير لترين ذل نفسك في الدنيا قبـل الآخرة ، أبشر بها يا عدو الله " ..  وقد كان  .

 فكانت (هزيمة سنة 1967) ،  بل قل (خيانة 1967) أخزى معركة في تاريخ البشرية لكل الأمم على مر العصور ، إذ ينتهي جيش عبدالناصر وفرعونيــة عبدالناصر في الربــع الساعة الأولى من المعركة ، إذ كان طيران يهود قد دمر طيران عبد الناصر من العريش حتى أسوان ، وكان طيارو يهود ينادون قـادة المطارات من خلال طائراتهم بأسمـائهم ورتبهم ويطلبون منهم التسليم  ،  وكان زهرة ضباط الطيران الذين رباهم عبد الناصر على فكره ،  فأباح لهم كل محرم ،  وكان يعاقــب كل من يظهر عليه التدين ،  كان هؤلاء الضباط يأتون في ناديهم المنــكر ليلة الهجوم في الإسماعيليــة .  وهجمت يهـود بطائراتهم وهؤلاء مخمـورون . .  فأنى لهم أن ينتصروا  .

 كانت معركة (1967) رحمـة من الله رب العالمين (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خــير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ البقرة :  216 ] ..  إذ لو إنتصر القائمون على هذه المعركة ،  لنسب النصر إليهم ،  لا إلى الله رب العالمين ،  ولـما عبد الله في الأرض .  ولما كان دين الله أعز عليه من كل خلقـه ،  فوضع شرطا للنصر " بنصر خلقه له " ..  ( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ محمد : 7 ] ..  وصدق الله في هؤلاء الحكام والأحزاب وأمثالهم الذين أعرضوا عن ذكر الله ،  وحاربوا الله ورسوله في كل أعمالهم وأفكارهم ( أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين * مثلهم كمثل الذي أستوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون* أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهـم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافــرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ) [ البقرة : 16-20 ]   .

فكيف ينصرون وقد أباحوا كل محرم ،  فأباحوا الزنا والخمر والميسر والغدر والخيانة ،  وقتلوا النفس المؤمنة ،  وكانوا لا يتورعون من قتل الطفل أمام والديه ،  ويهتكون عرض المسلمة أمام زوجها أو أخيها ،  وقبل ذلك وبعد ذلك ينفذون مخططات الكفر ،  فكان طبيعيا وشريعة ودينا أن يهزموا ،  هذا إن لم يكونوا متآمرين على أمتهم وعلى هذا الدين ،  يظنونه دينا عابــرا بتاريخ هـذه الأمة ، وكان ينافس عبد الناصر في ذلك الوقت ، وهو حزب أسس في الأربعينات من هذا القرن ،  إستطاع أن يستقطب كثيرا من شباب الأمة ،  هؤلاء الشباب كانوا لا يعرفون شيئا عن الإسلام ،  إلا ما يمثله بعض المتبطلين من أصحاب الطرق الصوفية الغلاة ،  أو بعض الذين يلبسون لباس أهل الدين وعقولهم وقلوبهم فارغة من هذا الدين إلا من خرافات وأباطيل ،  أو من بعض علماء السلاطين الذين باعوا دينهم بدنيا السلاطين ،  فحرموا وحللوا ،  فكان هواهم تبعا لهوى السلاطين ،  مخالفين بذلك قول الرسول  صلى الله عليه وسلم : "" لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "" .  وكان حزب البعث في يده السلطــة في الشام والعراق ، وقد ذهبت فلسطين ( كل فلسطين ) في رعاية حزب البعث في سوريا ،  وتحت شعاراته ،  واليوم يقوم حزب البعث السوري بتقديم فلسطين هدية ليهود ،  وشعارات الحزب هي هي في سوريا ،  سب الإمبريالية وتوعد الإمبرياليين .

وليس المجال هنا في بيان جرائم الحزب في سوريا ،  فهذا الحزب سلم الجولان ،  وسلم لبنان ،  وهو يزمجر ،  وتحول الحزب إلى عبــادة قائده بدلا من عبـادة الله ،  ممنوع أن يعبد الله إلا في السر ،  ولا يزال الشـباب الذين يظهر عليهم التدين فيـترددون على المساجد عرضة للإتهام والتحقـيق ،  بحجة أنه قبض عليهم متلبسين بالتـدين .  أما في العراق وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :""  خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام  "" فلقد  أعلن في العراق عن إسلام ( مشيل عفلق ) وهذا بحد ذاته إعلان عن فشل أفكار حزب البعث ،  ولقد تغيرت مبادىء حزب البعث بالعراق وخاضت العراق معركتها مع الكفر كله متمثلا بأمريكا وحلفائها وأعوانها باسم الإسلام وتحت راية " الله أكبر " وبدأ صدام حسين بتطبيق أحكام الشريعة خطوة خطوة فمنع البارات والمراقص والخمور وبدأ بتطبيق الحدود وبقطع يد السارق ،  وأمر بتحفيظ القرآن الكريم في المدارس والجامعات وبهذا يكون حزب البعث في العراق قد إنتهى إلا من الإسم والإسم هنا ليس معضلة بحد ذاته  .

 وساهم العلمانيون التقليديون ممن تربوا في مدارس الغرب ،  بإقامة دولة يهود ،  وكانت الكلية العربية في القدس ( دار المعلمين ) لا يدخلها إلا خيرة شباب فلسطين العباقرة ،  مصنعا لتخريج الإلحاديين والعلمانيين ،  والذين لا يؤمنون بهذا الدين إلا من رحم ربك وقليل ما هم  .

 كما كانت الجامعة الأمريكية في بيروت تصنع وتؤدي نفس الوظيفــة ،  مع تغيير نمط حيــاة الشباب المسلم ،  يعيش عيشة الغرب ،  فيقلد الغرب في مأكله ومشربه وملبسه حتى في منامه ،  فخرجت هذه الجامعة وأختها الجامعة الأمريكية في القاهرة الكثير الكثير من الذين لا يؤمنون بتاريخ أمتهم ،  ولا برسالتها ،  ولم تقرأ كتاب ربها ،  فكان طبيعيــا أن يؤثر هؤلاء في تفكير شباب الأمة تمهيدا لضياع فلسطين ..  وقد ضاعت  . وكان الكفر قد جاء ببعض العائلات التي كانت تحكم باسمه في بعض البلاد ،  فكانت مساهمتها في إقامة دولة يهود بارزة للعيان ،  وهي لا تستحي وهي تفعل ذلك أن تتمسح بالإسلام  .

حتميـــة النصـــر
الصحوة الإسلامية قـدر

 في هذا الجو "جو الكفر" وتطبيق أنظمة الكفر وتحريم ما أحل الله وإباحة ما حرم ، وغياب الفكر الإسلامي عن الساحة ، كان لا بد من الذي حدث من ذهاب كل فلسطين ، وسينـاء من مصر ، والجولان من سوريا ، وجنوب لبنان ،  ومن هذه التجزئة اللعينة التي تحياها هذه الأمة ، حتى تمزقت فأصبحت على مستوى الحارات والمشيخات والإمارات والجمهوريات والمملكات ،  وكلها أعلام وجوازات سفر وسفارات وقنصليات وهكذا من مظاهر السيادة الكاذبة ،  وهم ليس لهم سيادة إلا على شعبهم يضربونه بأمر سيدهم ،  ويذلونه إذا أراد ،  وعدد شعوب هذه المشيخـات لا يساوي عدد موظفـي سفارات إحدى الدول الكبرى المنتشرين في العـالم  .

 ولذلك جن جنون الغرب أو الكفر حينما ضمت العراق إحدى هذه المشيخات ،  فأرجعت الفرع إلى الأصل ،  فحشدت أمريكا ما تملك من قوة ،  وجرت وراءها دول الغرب وحكام المشيخات وعملائها من حكام بعض أجزاء هذه الأمة ، كل ذلك لتمنع توحيد أي جزئـين من أجــزاء هذه الأمــة ، ولها سابقــة في ذلك ،  فأمريكـا هي التي ساعدت عبد الناصر على توحيد سوريا ومصر ،  وكانت سوريا قد انفصلت قبل الـتوحيد عن الغرب سنة 1957،  فأصبحت دولة مستقلة ،  قرارها السياسي بيدها ،  فأراد الغرب أن يعيد سوريا إلى حظيرته عن طريق التهديد فحشد الجيوش على حدودها من الأردن ،  ومن العراق وتركيا ولكن ذلك لم يؤثر في سوريا فقرر أن يعيدها عن طريق عميله الأول عبد الناصر ،  فلما حققت أمريكا ذلك وعادت سوريا إلى حظيرة الغرب ،  سرعان ما فصلت سوريا عن مصر سنة 1961 ،  فقبل عبد الناصر بذلك الأنفصال بعد أن أمر طيرانه لضرب الإنفصال ،  ولكن السفير الأمريكي أمره بأن يرجع قواته من البحر ويمنع الطيران من الضرب ،  وخرج علينا بفتوى قبلتها الشعوب المخدوعة ،  أن العربي لا يصح أن يسفك الدم العربي ،  وبعد ذلك بثلاث أو أربع سنوات ،  أرسل جيوشه لذبح شعب اليمن بحجة  تخليصه من الرجعية والتأخر ،  وليعلمه الرقص والفن ،  فأرسل إلى اليمن الراقصات وفتح السينما  .

 كل ذلك ،  وكأن الشعب اليمني ليس عربيا ، والرسول صلى الله عليه وسلم يصف الشعب اليمني بقوله : ""الإيمان يمان والحكمة يمانيــة"" . ويقبل الشعب العربي المضلل الـفتوى من عبد الناصر ، أن العربي لا يسفك الدم العربي في سوريا ، ولكن يجوز أن يسفكه في اليمن ؟!! وصدق الله (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) [ الفرقان : 44 ]  .

 وكان لا بد لهذا الليل من آخر ،  ليل نبتت فيه القوميات المتخاصمة وقضي فيه على بقية الدولة الإسلامية التي كانت تمثلها السلطنة العثمانية ،  ليل تمزقت فيه هذه الأمة إلى قطع لا تقوى على الصمود ولا على الثبات ،  ليل أصبحت فيه الحدود بين ما يسمى بالدول العربية مقدسة أو شبه مقدسة ،  وكل واحد من هؤلاء الذين يحكمونهـا يدعي (العمل للوحدة) ، والحقيقة أن كل واحد منهم يعمل على تثبيت التجزئة ، ليل كثرت فيه الأعلام وتعددت الرايات وكثرت فيه جوازات السفر التي تعني أن هذا العربي المسلم ، ليس من أمة واحدة ، وليس من شعب واحد ، وإنما هو مصري ، سوري ، عراقي ، لبناني ، أردني ، فلسطيني ، سعودي ، جزائري ، مغربي ، تونسي ، ليبي ، سوداني ، موريتاني ، صومالي وأخيرا هو كويتي (تلك الإمبراطورية العظمى التي كفرت بعد حرب الخليج ، فأتخذت من دون الله آلهة : أمريكا وبريطانيا وفرنسا وكل دولة ساعدتها في الاعتداء على هذه الأمة وتحطيمها ، ولكن إلاههم الأكبر بوش يقدسونه أكثر من الله). وأخيرا في هذا الليل المظلم ذهبت فلسطين كل فلسطين ، وأجزاء من مصر ، وأجـزاء من سوريا وأجزاء من لبنان ، فكان لا بد لهذا الليل من آخر ، فكانت الصحوة الإسلامية ، وبدأت هذه الصحوة على غير توقع إلا من الفئة القليلة المؤمنة التي فهمت القرآن ، ودرست سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته ومبشراته التي بشر بها ، وتنبؤاته التي تنبأ بها وحيا  .

 -   التحول في الجزائر  :

 والأمة بعد خيانة 1967 ، عاشت في جمود فكري وسياسي ، وكان الناس حيارى لا يدرون . منهم من كان متعلقا بالزعيم ويرى فيه المسيح المخلص ،  فلما إنكشف أمر الزعيم وأنه كان ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ) [ النور :  39 ] .. أصيب بصدمة عنيفة أفقدته التفكير والقدرة على العمل ،  ومنهم من اتبع الأحــزاب الكافــرة التي سيطرت على أجــزاء كثيرة من هذه الأمة ، الأحزاب المأخوذ من الماركسية ، والمادية الديالاكتية ، التي قامت على أساس (التطور المادي الحتمي) للمجتمع والمادة والتاريخ ، وأن الآلة هي التي تطور المجتمع ، وأنه لا إله ولا يحزنون ، وإنما هي أرحام تدفع ، وبطون تشبع ، وقبور تبلع .. وأنه بعد الرأسمالية تأتي الإشتراكية ، وأن بعد الإشتراكية الشيوعية ، وبعد الشيوعية يعيش الإنسان بلا حكومة ، خيال مريض أنتجته عقلية يهودية سخيفة حاقدة ، عقلية ماركس ومن بعده لينين ، وكانت الأحزاب الكافرة في الوطن العربي والإسلامي أخذت هذا الفكر ، بإعتباره قضايا مسلم فيها لا تحتمل النقاش ، ولكن هذا الفكر سرعان ما إنهار ، وإنهارت الأحزاب التي تحمله ، سرعان ما إنهزم ، وإنهزمت الأحزاب التي تحمله ، وكان يستحيل على هذه الزعامات والأحزاب أن تنتصر لا شرعا ولا عقلا ، أما الشرع فلا يمكن لهذه الأمة أن تنتصر بغير الإسلام عبر التاريخ وإني أتحدى كل مؤرخ وكل مفكر وكل سياسي أن يعطيني معركة ولو واحدة انتصر المسلمون فيها بغير الإسلام . أما عقلا فالماركسية تلغي العقل في تسييره لأمور الدنيا وتجعل الآلة هي التي تتحكم في هذا التسيير  .

 وآخر معركة إنتصر فيها المسلمون في هذا العصر ، معركة الجزائر ، والذي إنتصر هو الشعب الجزائري المسلم ، الذي تربى في كتاتيب القرآن ، التي أقامتها جمعية العلماء بقيادة المرحوم الشيخ عبدالحميد بن باديس ، والمرحوم الشيخ بشير الإبراهيمي نائبه . كان الحزب الشيوعي الجزائري وهو فرع من الحزب الشيوعي الفرنسي يقاوم هذه الثورة ، ويدعو بالإندماج مع فرنسا ،  فلما إنتصرت الثورة ، جاء العلمانيون فسرقوها بقيادة أحمد بن بيلا ، ومن بعده هواري بو مدين ، وأقتسم قادة جبهة التحرير السلطة والسرقة ، وسرقوا من أموال هذا الشعب عبر هذه السنين (27) مليار دولارا ، مما أدى إلى إفقاره وتجويعـه ، ولقد اعـترف (أحمد بن بيلا) في إجتماع تم في لندن في بيته بيني وبينه ، أنهم حينما إستلموا الحكم في الجزائر ، كانوا مراهقين سياسيين ، وأنهم لبسوا حلة ليست لهم ، ضيقة قصيرة الأرجل والأكمام ، ومع هذا لبسوها فعذبتهم وعذبت الشعب الجزائري  .

 وهكذا ، أفلست جبهة التحرير ، وأفلس فكرها إن كان لها فكر ،  وأجاعت الشعب في الجزائر ، والبلد الوحيد في العالم -على ما أعلم - الذي تؤجر فيه الشقق السكنية لعائلتين بآن واحد ، عائلة بالليل وعائلة بالنهار هو الجزائر .

 لكن الله كان لهؤلاء الحكام بالمرصاد ، فأنتفض الشعب الجزائري إنتفاضته الكبرى ، قبل خمس سنوات ، وهيأ الله له قيادة مسلمة (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) ففازت في الانتخابات على أساس من كتاب الله وسنة رسوله ،  فحصلت على (88%) من مجموع الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات ،  ولو جرت الجولة الثانية من الانتخابات لسيطر الإسلام على (95%) من مجموع أعضاء المجلس ، لكن الغرب تحرك ، وتحرك الصليبيون ، وتحركت أمريكا ،  وتحركت فرنسا ، وتحرك الماسونيـون وتحرك العلمانيـون ولا يزال الجيش تحت أيديهم ،  فصـادروا ( الديمقراطية ) في الجزائر ،  مصرين على تجويع الشعب الجزائري وإذلاله وسرقة أمواله .  لكن الغيب يتدخل ،  فأنتفض الشعب ولا يزال ،  وكان الحكام من جهلهم هم ومن معهم يظنون أن القوة ستقضي على إرادة الشعب المستمدة من إرادة الله .  فسرعان ما حركوا الجيش ليقضي على هذا ( التمرد ) لكن الأمر أستفحل ،  وكلما سقط شهيد في المعركة قام رجال أشداء ،  والآن تبحث الفئة الباغية في الجزائر عن حل يحفظ وجودها إن كان سيبقى لها وجود ،  ويحفظ ماء وجهها إن كان في وجوههم حياء  .

 وهم اليوم بدأوا يتراجعون ،  فبدأوا يغازلون ويريدون المفاوضة مع جبهة الإنقاذ الإسلامية ،  ونصر الإسلام في الجزائر حتمي بإذن الله ،  إذ أن الثورة في الجزائر ليست ثورة حزب ،  لكنها ثورة شعب .  وقد رأيت ذلك بأم عيني حينما زرت الجزائر ،  وحضرت مهرجانا ،  أنا والشيخان عباسي مدني وعلي بلحاج في الاستاد الرياضي الكبير في الجزائر ،  وخطبنا أمام عشرات الألوف التي كانت تزمجر وتعلن الجهاد والإستشهاد ،  وقد سجل هذا المهرجان على شريط فيديو ووزعت منه مئات الألوف من النسخ في جميع أنحاء العالم وخصوصا في الجزائر وفرنسا وأوروبا .  فإذا ما سقط الحكم في الجزائر بأيدي المسلمين وشع نوره فسيشمل المغرب العربي الكبير ،  ومن يدري فلعل دولة الإسلام في هذا العصر تبدأ من هناك ،  فتتوحد الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والمغرب وتندفع هذه الدولة إلى المشرق ،  لترد لأهل المشرق الجميل لأحفاد الذين حملوا إلى المغرب هذا النور . .  نور الإسلام العظيم  .

 ولا بد للإسلام أن ينتصر ،  لأن هذه الأنظمة لا تقوى على الصمود ،  فهي غير مخلصة حتى في كفرها ، وستنهار عاجلا أم آجلا ، وسيرثها الإسلام ،  فوظيفة هؤلاء الحكام أن يأكلوا كما تأكل الأنعام ، ويشربوا كما تشرب الأنعام ،  حيـاتهم اللذة وعيشهم الفجور ، يبحث الواحد منهم عن اللذة في أطراف الدنيا ،  يشتريها بأموال هذه الأمة ،  فلم يعدوا العدة لشيء إلا ما كان من عدة كتم أنفاس الشعوب ، ومحاربة الإسلاميين ، وقتل المؤمنين ، والعمل على تثبيت يهود دولة يلعنونها بالنهار (هذا إن لعنوها ، وقد تابوا عن ذلك بعد المفاوضات)  ويتآمرون معها في الليل ، فجلهم صناعة يهودية وحياكة ماسونية ، ولا يزال أكثرهم يستوردون الأحذية وما صغر وما كبر من مستلزمات هذه الحياة الكمالية والضرورية منها . وقد قلت في محاضرة في لندن - وأنا أتكلم عن حتمية زوال دولة إسرائيل ، وأفسر آيات المائدة والإسراء - قلت عن الاستعداد الروحي وتقوية الصلة بالله حتى يتهيأ لنا التغيير ،  نعمل بتوفيقه ونسير على هداه ،  فوقف لي أستاذ جامعي من تونس وقال : "إنك لم تتكلم عن الاستعداد المادي" ،  فقلت : " أي استعداد سيكون في ظل هــؤلاء الحكام ، الذين لا يزالون يستوردون الأحذية ، فكيف بهم أن يصنعوا عابرات القارات ، وألات التدمير ، وأحدث الطائرات ، فلا يمكن لهؤلاء أن ينتصروا ، لأن انتصارهم يخالف سنن الله في الكون ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) [ فاطر : 43 ] " .

 -   التحول في مصر  :

 ويبدأ التحول في مصر ،  مصر التي هي حبة العقد في بلاد العرب والمسلمين ،  والتي حافظت بأزهرها على الإسلام ،  الذي خرج العلماء خلال الألف عام .  وشعب مصر هو أعمق العرب إسلاما على ما فيه وأكثرهم إيمانا يستجيب لنداء الله ،  وفي أول القرن ظهر الزعيم المصري المسلم مصطفى كامل الذي كان ينادي بمصر الإسلام ،  وأن تعود مصر لدولة الخلافة ،  ولأمر أراده الله مات شابا قبل أن يستكمل رسالته ، وينفذ أفكاره ، فجاء من بعده العلمانيــون فــزوروا إرادة الـشعب ( سعد زغـلول وربعـه ) ،  إلى أن ظهرت حركة الإخوان المسلمين على يد الإمام حسن البنا - رحمه الله - ،  فعملت عملها في إيقاظ الشعور الإسلامي ،  والدعوة إلى توحيد المسلمين ، ولكن هذه الحركة إنتكست بمجيء ثورة ( 23 / يوليو ) بعد أن إستشهد مؤسسها رحمه الله  .

 هذه الثورة ( ثورة جمال عبد الناصر ) جاءت لأمرين إثنين :  لضرب الحركـة الإسلاميـة المتمثلة في حركـة الإخوان ،  والتي قاتلت في فلسطين سنة 1948 قتالا إيمانيـا ،  فحاسبها الغرب الحساب العسير ،  فجاء بعبد الناصر ليضربها حتى يثبت يهود دولة وهو الأمر الثاني . .  وهكذا كان ،  وأعدم عبد الناصر كل من ينادي بالجهاد والجنة والإستشهاد  .

 وعاش شعب مصر وحـال الناس يقول " أنج سعد فقد هلك سعيد " ،  لكن الله العزيز الجبار أخذ عبد الناصر أخذ عزيز مقتدر ،  فسقط وسقط فكره إن كان له فكر ،  وسقط ميثاقه ،  وعفـا عليه الزمن ،  ولم يعد أحد يذكره ،  وبدأت الصحوة الإسلامية من بعده تتململ من تحت الرماد  .

وهكذا بدأ التحول في مصر نحو الإسلام وبدأ الإسلام يفرض نفسه على المجتمع في الجامعات ،  في الأساتذة والطلاب ،  وفي النقابات وفي المثقفين ،  وبدأت الحملة المضادة لمحاولة إيقاف هذه الصحوة ،  فعادت ماكنات التعذيب والبطش والإرهاب لعلها توقف إرادة الله في التغيير ،  وقد أزكى شعلة التغيير نحو الإسلام أنـور السادات بخيانتـه وإعترافـه بدولة يهود وتسليمه فلسطين والقدس للكفـار ،  وقد زار القدس ليبارك ليهود في أخذها ،  وها هي مصر اليوم تعيش المعركة معركة التغيير وهي بين مد وجرز ،  وقد قررت حكومة مبارك عمل مؤتمر وطني إستثنت منه الإسلاميين لعلها تجد طريقا في الخروج من عنق الزجاجة التي هي محشورة فيه ،  وسيفاجىء العالم ذات ليلة بأن هذا النظام الخائن الذي يعيش حشرجت الموت قد انهار فجأة وعادت مصر إلى قيادة العالم العربي والإسلامي وإلى لعب دورها الإساسي في تحطيم دولة يهود وتحقيق وعد الله في ذلك  .

 وتتكرر مأساة الجزائر في مصر في الإسكان وعدم وجود البيوت ، فلا يستطيع الشباب والشابات أن يتزوجوا إلا ما ندر ، لأن إيجاد شقة في مصر يرتفع إلى مستوى المعجزة ، وهي إن وجدت فسعرها لا يطاق ، بل إيجاراتها ترهق ولا يتحملها الشباب ، سرعان ما إنتفض شباب مصر من عشاق الجنة ،  وأنطلقوا يضربون النظام في عمقه وفي رموزه وفي حراسه ، والنظام كاد أن يرضخ بمفاوضة الإسلاميين ، وألفت لجنة من كبار دعاة الإسلام لهذه المهمة ، ولكن النظام خاف على هيبته أن تنهار فعدل عن الفكرة ، فإزداد الأمر اشتعالا ،  فمصر اليوم على أبواب التغيير المنتظر . وقد صدرت أحكام الإعدام في (19/فــبرايـر/1994) على ثلاثة من العسكريين بتهمة محاولة إغتيال الـرأس الفـاسد للنظــام (حسني مبــارك) ، وهذا سيجعل الأمر بإذن الله يبلغ مداه فتحكم مصر بالإسلام ، ويكنس الإسلام الفساد والمفسدين ، ويكنس دولة يهود إلى مزابل التاريخ  .

حقوق الطبع محفوظة لكل مسلم   2006 ©